الصفحة الرئيسية / مراجعات / خمسون حكمة حول العالم / الحكمة (8): «النسيان» لإكتور آباد فاسيولينسي
أقف اليوم في محطتي الثامنة: كولومبيا. اكتشفت مؤخراً أن الكتب الجميلة يصعب علي إنهاؤها. والأصعب أن أكتب عنها. أتحدث هنا عن الكتب التي تلامس أرواحنا فتسموا عن الكلمات والحروف ويصبح حصرها في بعد مادي مستحيل. فما أثارته في ذواتنا من مشاعر وأحاسيس تتجاوز المعاني التي نستخدمها. وكما قال نزار قباني في قصيدة «درس في اللغة لتلميذة مبتدئة»: “أنا بحاجةٍ حين تكونين معي إلى لغةٍ جديدةٍ أحبك بها”، هنالك علاقات تحتاج إلى لغة جديدة كي نعبر فيها عن حبنا وعاطفتنا الحقيقية للطرف الآخر، وفي هذه الحالة بالذات فإن هذه العلاقة تجمعني بكتاب «النسيان» لإكتور آباد فاسيولينسي الذي نشرت طبعته الرابعة دار العربي للنشر والتوزيع في 2016 في القاهرة ونقله إلى العربية مارك جمال.
احتفظ بالكتاب منذ ديسمبر 2017 عندما اشتريته تحضيراً لمناقشته مع منتدى اقرأ، ولكنني لم أتمكن من إنهائه حينها. كان الجرح ما يزال دامياً والحزن ما يزال طازجاً بعد أن مرّ حوالي سنة فقط عن وفاة جدي عبد الحق الأسود الذي يشبه بطل الكتاب كثيراً. كنت أراه في كل صفحة وكأن إكتور يكتب عن جدي وليس عن والده (هيكتور أباد غوميز). اختلفت الأماكن والأزمنة والأسماء إلا أن الأرواح كانت واحدة والأفكار تكاد تكون متطابقة وهو ما زاد تعلقي بالكتاب.
يروي الكاتب قصة والده ويقول في الغلاف: “انتقامي الوحيد … أن أروي ما حدث” وهو انتقام قام به على أكمل وجه. فالكتاب لا يروي حياة هيكتور أباد غوميز فقط وإنما يلخص فترة التحولات والانقلابات في عشرين من التاريخ الكولومبي الحديث وتحولها من أقصى اليمين البرجوازي إلى اليسار الشيوعي وظهور المافيات والعصابات وختاماً الاغتيالات العلنية السافرة التي أودت بحياته عام 1987.
ما الذي جمع بينهما إذن؟ جدي ووالده؟ سأختصر الإجابة في كلمة واحدة وهي الإنسانية. العملة المفقودة في حياتنا المعاصرة مما يجعل أي شخص يتمتع بها على قدر كبير من الجاذبية والتميز. لكن ماذا تعني الإنسانية؟ الإنسانية هي الذات في أرقى تجلياتها عندما تصل إلى مستوى النفس المطمئنة لأنها متحدة مع العالم من حولها فلا ترى خطراً يهددها في شخص مختلف عنها ولا يُخيفها تغير الطقس وارتفاع أسعار النفط. إنها نفس مدركة حق الإدراك حقيقة ذاتها ومتصالحة مع هذه الحقيقة وبذلك فهي متصالحة مع حقائق الناس جميعاً، يقول والد إكتور في هذا السياق: “الإنسان، كل إنسان، قد حكم عليه بأن يكون هو نفسه، فليس لعصا أن تقومه، ولا لرفقة سوء أن تعوجه.” (ص. 137) أمّا أهم صفات هذه الميزة فهي اللين والمحبة ونشر السعادة. (السعادة، هي خير وسيلة للتعليم) كان يردد والد إكتور، “ربما بتفاؤل زائد على الحد، ولكنه كان يقولها من قناعة حقيقية.” (ص. 32) ويضيف إكتور في وصف حب والده غير المشروط: “إن الحب غير المشروط ” هو الذي يعيننا على تحمل أسوأ ما في الحياة، بل والحياة نفسها، لو شاء لنا الحظ وحظينا به.” (ص. 253)
وأكثر ما ذكرني بجدي هو آراؤه المتوازنة والمتفهمة لكل الأصناف لدرجة أن أهل اليسار يحسبونه من أهل اليمين وأهل اليمين يخالونه من أهل اليسار، وفي ذلك يقول هيكتور: “أولئك الذين يرميهم أهل اليمين بانتمائهم إلى اليسار، ويرميهم أهل اليسار بانتمائهم إلى اليمين، هم المحقون” (ص. 97) لأنهم الأكثر إنسانية.
يُمكن تلخيص هذه الرواية في كلمة واحدة وهي المحبة. كان والد إكتور محباً للإنسان مهما اختلفت عنه وبذلك كان في قمة إنسانيته، وكان محباً لابنه فما خلّف لديه إلا ذكريات جميلة وسعيدة، وطبعاً مُحباً للحياة لا يحتاج لكي يتخطى تحديات يومه إلا إلى موسيقى جيدة وكتاب مُتقن.
الحكمة من الكتاب:
علمّني هذا الكتاب درساً في غاية الأهمية لم أجده في أي من كتب التربية ألا وهو: الحب غير المشروط. وبينما كنتُ أقرأ أجزاء الكتاب تساءلت عن الذكريات التي سيذكرها ابني عني وهل يا ترى ستكون بهذا الجمال؟ هذا السؤال جعلني أراجع كل منهجيات التربية ونظريات التأديب ففي نهاية المطاف أقصى أمنياتي أن يعيش ابني بخير والطريق لذلك بسيط بحسب هيكتور: “إن أردت أن يكون ابنك بخير، أسعده، وإذا أردت أن تجعله أفضل حالاً، فزده سعادة. إننا نسعدهم كي يكونوا بخير فيعود عليهم ذلك بمزيد من السعادة.” (ص. 27)
أمّا بالنسبة للقسوة والتأديب فينقل لنا إكتور المحادثة التالية: “جدي [كان] يقول عني أحياناً: (هذا الطفل تعوزه يد قاسية)، فيرد أبي: (أجل، تعوزه يد قاسية، والحياة كفيلة بذلك، فهي تقسو علينا جميعاً؛ الحياة أكثر من أن تكون كفيلة بأن تذيقنا الشقاء، ولا أفكر في إعانتها على ذلك.)” (ص. 36-37)
اقتباسات من الكتاب:
“كل ما كتبت تقريباً، كتبته لمن لا يستطيع قراءته، وهذا الكتاب تحديداً، ليس بأكثر من رسالة إلى ظلّ.” (ص. 25)
“بحلول المساء، وبينما النور آخذ في الانحسار، كان يغمرني حزن لا يوصف، ضرب من ضروب الحنين نحو كافة أرجاء العالم.” (ص. 40)
“سعى [والدي] إلى تنشئتي بعيداً عن الإيمان، وهو ما أراد أن يصل إليه بنفسه من خلال المنهج العقلاني، حتى يخلصني من كل أشباح الشعور بالذنب والكبت الديني التي عذبته طوال حياته.” (ص. 93)
“يولد الأطفال ببرنامج فطري يحملنا على الإيمان بما يؤكد عليه الكبار عن قناعة دون نقد يُذكر. ومن المناسب أن يكون الأمر على هذا النحو، فماذا لو كنّا نولد مشككين ونحاول عبور الطريق دون التطلع إلى الطريق أولاً، أو نحاول اختبار حدّ السكين على الوجه كي نتأكد إذا كان قاطعاّ بحق، أو التوغل في الغابة بلا رفيق. الإيمان الاعمى بما يقول به الوالدان هو مسألة بقاء على قيد الحياة بالنسبة لأي طفل، وهو ما ينطبق على شؤون الحياة العملية والمعتقدات الدينية. لا يؤمن بالأشباح والمسوسين أولئك الذين أبصروهم، بل أولئك الذين حملوا على الإحساس بهم وإبصارهم (وإن لم يبصروهم) منذ الطفولة.” (ص. 95)
“ليس الأمر أن المرء يولد صالحاً، ولكن إذا قوبل الشر الغريزي الكامن بداخله بالتسامح والإرشاد، فربما أصبحت هدايته ممكنة من خلال سبل غير مؤذية، بل وربما أمكن تبديل وجهته.” (ص. 101)
“كان من المعروف في بيتي أن النساء هن الشجاعات، هن صاحبات الحس العملي، القادرات على كل شيء، ومن يواجهن الطريق بعزم وسعادة بينما يتدلل الرجال غير قادرين على خوض الحياة الواقعية ومصاعب الحياة اليومية، بلا فائدة بمعنى أصح، لا يصلحون سوى للخطابة حول الحقيقة والعدالة.” (ص. 127)
“التسلسل الزمني للطفولة لا تصنعه خطوط مستقيمة، بل لحظات الذعر. والذاكرة مرآة قاتمة محطمة إلى شظايا، أو بالأحرى مصنوعة من أصداف الذكريات الخالدة المتناثرة فوق شاطئ النسيان.” (ص. 134)
“الموت ليس خطيراً في عيني من يحمل بداخله حزناً بلا حدود، وحتى إذا لم يرغب المرء في الانتحار، أو لم يكن قادراً على أن يرفع يده ليلحق الأذى بنفسه، فإن خيار الموت على أيدي الآخرين من أجل قضية عادلة يصبح أكثر جاذبية طالما فقد بهجة الحياة.” (ص. 175)
“غالباً ما تكون الرحمة سمة من سمات الخيال، فهي القدرة التي تتيح للمرء أن يضع نفسه مكان الآخرين، أن يتخيل ما قد يشعر به في حال عانى من موقف مماثل. ودائماً ما اعتقدت أن قساة القلوب يفتقرون إلى الخيال الأدبي – تلك القدرة التي نكتسبها من وضع أنفسنا مكان الآخرين، والتي نكتسبها من خلال الروايات العظيمة -، ودائماً ما اعتقدت أن قساة القلوب ليسوا قادرين على إدراك حقيقة أن عجلة الحياة دوارة، وأننا قد نقف مكان الآخرين في وقت ما، نذوق الألم، الفقر، القمع، الظلم أو التعذيب.” (ص. 176)
“إن مجتمعاً إنسانياً يتطلع إلى أن يكون عادلاً لا بد وأن تتوفر نفس الفرص من حيث المناخ المادي والثقافي والاجتماعي لكافة عناصره، وإلا فإنه يخلق بذلك تفاوتات مُفتعلة.” (ص. 214)
“لتبرير مرورنا عبر الأرض، ينبغي علينا أن نطمح إلى أهداف أسمى من مجرد ذلك. إن تحديد الأهداف يميّز الرجال عن بعضهم البعض. وليس الأهم هو تحقيق تلك الأهداف، بل الكفاح من أجلها. ليس في الإمكان أن يكون كل واحد منّا بطلاً من أبطال التاريخ. ورغم أننا خلايا في ذلك الجسد الكوني البشري العظيم، فإننا على دراية بأن كل واحد منّا يستطيع فعل شيء من أجل تحسين العالم حيث نعيش، وسيعيش من يأتي بعدنا. يجب علينا العمل من أجل الحاضر والمستقبل، وهو ما سوف يعود علينا بمتعة أعظم من مجرد اللذة البسيطة للمتعة المادية. ولا بد وأن تكون معرفتنا بأننا نساهم في صنع عالم أفضل هي أقصى طموح للبشرية.” (ص. 216)
“نعرف أننا سنموت لسبب بسيط، وهو حقيقة أننا على قيد الحياة.” (ص. 227)
الختام:
إذا كان فناؤنا محتوماً، لماذا لا نقضي سنوات عمرنا في محبة؟ سؤال بقي عالقاً في ذهني بعد انتهاء الرواية. أليست الذكرى الطيبة هي أفضل ما قد يتركه المرء بعد رحيله؟ وإن كانت الحال كذلك، فإن هذا الكتاب يقدم السر وراء هذه الذكرى: الإنسانية والمحبة.
أحدث التعليقات