هل نصنع الكلمة؟ أم تصنعنا؟
سؤال بقي عالقاً في ذهني بعد أربع قراءات مثيرة للعقل وللبصيرة. اقترح الكتب الأربعة، وغيرها من الكتب التي تثير غريزة القارئ، الكاتب والقّيم الفني، الأستاذ عمر برادة. وتأتي هذه الجلسات القرائية ضمن فعاليات استوديو الأبحاث: تداخلات* والتي تنقسم إلى مجموعتين قرائيتين: إحداها باللغة العربية والأخرى بالإنجليزية “وتركز على فكرة تداخل وجهات النظر في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كما تتأمل الأبعاد المتعددة للترجمة النصية والثقافية بما يشمل تحول الأشكال الفنية عبر التاريخ”2. وكان لي الشرف بأن قدمت قراءات المجموعة العربية.
شرق وغرب، شمال وجنوب
بدأت رحلتنا برائعة الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»، وهو أديب وروائي سوداني، سبق وعمل في الإذاعة البريطانية قبل انتقاله لقطر حيث تسلم منصب مدير عام وكالة الأخبار والإعلام القطرية.
أما بالنسبة للرواية فهي أشهر رواياته التي كتبها عام 1966 ونشرتها دار العودة في بيروت وترجمت إلى الإنجليزية وأكثر من 30 لغة أخرى.
يسرد أحداث الرواية راوٍ بلا اسم، وهو مبعوث عاد إلى قريته المعزولة والمسالمة بعد أن أنهى دراسته في إنجلترا. تصله حكاية مصطفى من أطراف عديدة منهم جده الذي يعتبره غريباً، ويلوم على عائلة زوجته التي سمحت أن تتزوج ابنتهم غريباً من الخرطوم. وخلال إحدى السهرات العجيبة التي جمعت بين الراوي ومصطفى وصديق مشترك بينهما، وبعد أن سكر مصطفى، بدأ بتلاوة قصيدة إنجليزية، مما زاد شكوك الراوي، لكن سرعان ما يلتقيان، ويحكي مصطفى للراوي تفاصيل قصته.
نبغ مصطفى في مدارس الخرطوم، مما أدى إلى رحيله لمصر لمتابعة دراسته، ثم إلى إنجلترا متخصصاً في علم الاقتصاد، ثم مدرساً له. ويمكن اعتبار مصطفى أنه رجل بلا عاطفة (كما أشار إلى نفسه)، وهو يردّ على ما صار لبلده جراء احتلالها من قبل الإنجليز بإقامة علاقات عديدة وكثيره مع نساء إنجليزية، وبعد هذا الاعتراف، نتفاجأ بموت أو اختفاء مصطفى بعد غرقه. وهو سؤال يبقى في ذهن القارئ حتى بعد الانتهاء من قراءة الرواية.
بعد مرور ما يقارب نصف قرن على نشر الرواية، تكاثرت المنشورات والمحاضرات المعنية بالموضوع ذاته، ولعل ذلك جعل من موضوعها معتاداً لقارئ اليوم، ولكن وقبل ما يزيد عن خمسين سنة، كانت دراسات ما بعد الاستشراق والتي تُعنى بنظرة الآخر أو “الغرب” لنا نحن أو “الشرق” ما تزال في بداياتها، وخاصة في العالم العربي. ولذا، فقد تصدرت هذه الرواية العديد من العناوين وأثارت اهتمام القرّاء والنقاد على حد سواء.
إذن، لماذا موسم الهجرة إلى “الشمال” وليس “الغرب”؟
إن عنوان الرواية في حد ذاته في غاية الأهمية، فعوضاً عن استخدام المصطلح السائد: “الغرب”، استبدله الكاتب بمصطلح أكثر دقة وبعيداً عن الأيديولوجيات، ألا وهو: “الشمال”. وتجدر الإشارة إلى أن الغرب: “من المفاهيم الملتبسة في المنظومة الفكرية والمعرفية الإنسانية عامة، والأوربية خاصة؛ بسبب خروج المصطلح من الدلالة اللغوية البسيطة المختزلة في “غروب الشمس” إلى سياقات مشحونة بمفاهيم عقائدية وأسطورية وإيديولوجية.” (سعد الله، 2017) وانطلاقاً من هذا العنوان الدقيق، يغوص بنا الكاتب في قصة الشرقي في بلاد غربية، والصراع الدائم القائم بين المنظورين: الشرقي والغربي. فهو من خلال هذه الرواية ينقد المنظور الأحادي المشبع بالتعميمات. وفي هذا السياق، نجد أن الراوي ينتقد المنظور الشرقي الذي يرى في الغربي رجلاً غريباً وغرائبياً، فبعد عودته من إنجلترا سُئِل إذا ما كان بين الإنجليزيين مزارعون، فأجاب: “نعم بينهم مزارعون وبينهم كل شيء، منهم العامل والطبيب والمزارع والمعلم، مثلنا تماماً،” ثم تابع ملاحظته بصمت دون أن ينطق: “يولدون ويموتون وفي الرحلة من المهد إلى اللحد يحلمون أحلاماً بعضها يصدق وبعضها يخيب. يخافون من المجهول، وينشدون الحب، ويبحثون عن الطمأنينة في الزوج والولد. فيهم الأقوياء، وبينهم مستضعفون. بعضهم أعطته الحياة أكثر مما يستحق، وبعضهم حرمته الحياة، لكن الفروق تضيق وأغلب الضعفاء، لم يعودوا ضعفاء.” (صالح، 1966، ص. 7) أما بالنسبة لمصطفى سعيد، فكتب في إهداء مذكراته: “إلى الذين يرون بعين واحدة ويتكلمون بلسان واحد ويرون الأشياء إما سوداء أو بيضاء، إما شرقية أو غربية.” (صالح، 1966، ص. 136). وكأن غرضه من ذلك نقد هذا المنظور الأحادي، فهو ملم بالمنظورين وبتعميماتهما. إلا أن ذلك لم يعُد عليه دائماً بالمنفعة، فلقد اعتقد الكثيرون أنه جاسوس بسبب ذلك. إن الشخص الذي لا يشارك أغلب الناس قناعاتهم، ولا تنطبق عليه تصوراتهم وتوقعاتهم، غالباً ما يكون محطة استفهام وتساؤل. وهذا ما يفسر الغموض حول شخصية مصطفى سعيد. طبعاً، مصطفى سعيد ليس الأول أو الأخير الذي تصله الملامة بسبب إتقانه لأكثر من لغة واطلاعه على أكثر من حضارة، بل وإتقانه وفهمه لكلتيهما. إذ يذكر عبد الفتاح كيليطو في كتابه «لن تتكلم لغتي» قصة مشابهة.
لن تتكلم لغتي
درس عبد الفتاح كيليطو بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، وحصل على دبلوم الدراسات العليا سنة 1971، وعلى الدكتوراه سنة 1982. ويعمل حالياً أستاذاً بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، وتتنوع كتاباته باللغتين العربية والفرنسية، تَمَيَز منها كتابه الصغير والمنير «لن تتكلم لغتي» الذي نشرت طبعته الأولى دار الطليعة ببيروت سنة 2002.
يّذكر عبد الفتاح كيليطو في الفصل الأخير من كتابه «لن تتكلم لغتي» والذي بعنوان “لا تتكلم لغتي ولن تتكلمها” قصة منقولة عن الكاتب الألماني شولد: ” في بداية الستينات، وقبل أن تقطع الصين علاقتها مع الاتحاد السوفياتي، كان بيتر وماري ماير، وهما من لندن يُدرّسان الإنجليزية في مدينة صينية صغيرة كبيرة، أي في مكان يضم مليوناً أو مليونين من السكان. لم يبق هناك من الأجانب إلا مهندسان روسيان، وكانا يتجاذبان معهما أطراف الحديث من وقت لآخر في الاستقبالات أو في مناسبات أخرى شبه رسمية. ذات يوم، استدعي الإنجليزيان من طرف المخابرات وخضعا للاستنطاق لم يدركا في بداية الأمر مبرراته وأهدافه. ثم تبينت لهما الحقيقة أخيراً. “في كل مرة تتحدثان فيها مع الروسيين في مكان عمومي، تستعملان الصينية. فهل تسعيان، والحالة هذه، إلى إخفاء شيء ما؟”. أكّد ماير وزوجته براءتهما وفسرا نهائياً لشرطة المخابرات المتحمسين أن الروسيين لا يمتلكان الإنجليزية، وأنهما بدورهما لا يمتلكان الروسية، وبالتالي فإن الصينية هي الوسيلة الوحيدة للتفاهم. لكنهما لم ينجحا في إقناع الصينيين الذين رفضوا الانخداع بهذا الكلام. “إنكما أجنبيان، تماماً كالروسيين، وبإمكانكما في هذه الحالة التحدث معهما بلسان أجنبي، وبما أنكما لا تفعلان ذلك فإن الأمر غامض ووراء الأكمة ما وراءها”. (كيليطو، 1990، ص. 103-104).
ويُفسر كيليطو هذا المأزق بقوله: “باستعمالهما للصينية، صار الإنجليزيان محل شبهة. لو “تحدثا أجنبياً”، لو كلما الروسيين بالإنجليزية أو الروسية، أي بغير الصينية، لما أثارا الارتياب. لكنهما الآن صارا محل شبهة بمجرد أن تكلما لغة البلاد. الإبانة التامة، الوضوح الكامل، التكلم بلسان كل من هب ودب حولهما، صار الغموض بعينيه ومنتهى اللبس. اللسان الذي كان يمكن أن يؤول استعماله كعلامة على التكيف والاندماج تحوّل إلى لسان الفرقة والانفصال، فكأنهما تعمدا الإضرار، وكأنهما يكتمان سراً رهيباً ويستعملان الصينية استعمالاً لا يخلو من كيد. إما أن تلغزا وإلا فبينا. هذه الحالة القصوى، بغض النظر عن كونها من النوادر، ورغم طابعها الكاريكاتوري، تبدو لي ذات دلالة. إنها تحيل إلى الرغبة في حماية اللسان من تطاول الغرباء عليه.” (كيليطو، 1990، ص. 104-105)
وبهذا المثال البسيط، يشرح كيليطو فكرة كتابه “لن تتكلم لغتي”، فاللغة الصينية لم تكن مجرد لغة ذات حروف وكلمات، وإنما كانت رمزاً للوطنية أو ربما لسيادة الدولة، والتي عندما تحدّث بها الغرباء، بدا الأمر وكأنه تهديد لهذه السيادة.
في هجاء الكوميديا ومديح التراجيديا
أمّا بالنسبة لعبد الرحمن بدوي – نقلاً عن كيليطو – للغة والترجمة دور حضاري تقدمي، لذلك كان متّى بن يونس مسؤولاً عن تخلف الأمة العربية. ويضرب مثالاً على ذلك ترجمته الخاطئة لمصطلحي الطراغوديا والقوموديا، إذ أقدم على ترجمة الأول بالمديح والثاني بالهجاء (يُعرف المصطلحين حالياً بالتراجيديا والكوميديا تبعاً) وقد اعتمد ابن سينا على هذه الترجمة عند فهمه وقراءته لكتاب أرسطو «فن الشعر». ويقول بدوي: “يخيل إلينا أنه لو قدر لهذا الكتاب، كتاب فن الشعر لأرسطو، أن يُفهم على حقيقته وأن يستثمر ما فيه من موضوعات وآراء ومبادئ، لعني الأدبي العربي بإدخال الفنون الشعرية العليا فيه، وهي المأساة والملهاة، منذ عهد ازدهاره في القرن الثالث الهجري، ولتغيّر وجه الأدبي الشعري كله.” (كيليطو، 1990، ص. 111-112) وإذا استخلصنا ما يحاول بدوي إيصاله من هذه الكلمات لاستنتجنا ما يلي: “لو فهم العرب جيداً فن الشعر، لما كانت هنالك ضرورة للنهضة الأوروبية؛ فما الداعي لأن يقوم الأوروبيون بنهضة يكون قد سبق للعرب أن أنجزوها واضطلعوا بها؟ … إن ترجمة متّى الشنيعة عادت بالويل لا على العرب وحدهم – إذ حرمتهم من أن يكونوا أوروبيين – وإنما أيضاً على الأوروبيين لأنها أخرت نهضتهم لعدة قرون. كل هذا حصل بسبب كلمتين اثنتين كان مصير العالم أجمع متوقفاً على فهمهما!” وبعد سطور قليلة يختم كيليطو كتابه بتساؤل منطقي، وهو: “هل حقاً كان [متّى بن يونس] يجهل ما يقصده أرسطو بالطراغوديا والقوموديا؟ ومن يدري! لعله كان على علم تامٍ بدلالتهما، ولعله تعمّد ترجمتهما بالمديح والهجاء.” (كيليطو، 1990، ص. 113-114) بمعنى آخر: هل قام متى بن يوسف بوعي منه بأقلمة المفهومين؟ سؤال قد يساعدنا كتاب «أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله» في الإجابة عليه.
كوجيتو واحد، وترجمات عديدة
يغطي كتاب «أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله» للكاتب عمر كوش، والذي نشر طبعته الأولى المركز الثقافي العربي بالدار البيضاء سنة 2002، بحراً واسعاً من المواضيع الفلسفية واللغوية والثقافية، ولا عجب من ذلك فعمر كوش كاتب وباحث سوري، نُشرت له العديد من المقالات عن الوضع السوري في مجموعة من المواقع الإخبارية.
يُركز كتاب كوش على ترجمة المصطلح الفلسفي، والذي يعرّفه بقوله: “تنتقل المفاهيم، كالبشر (المهاجرين)، من إقليم حضاري إلى آخر، ومن عصر أو مجال معرفي إلى آخر، عبر عمليات التفاعل والتبادل بين مختلف الأقاليم الحضارية، وعلى مر العصور جرت هذه العملية وفق أشكال مختلفة أهمها عمليات الترجمة والاقتباس، وأدت إلى إثراء الحياة الفكرية والثقافية في بعض الأقاليم، عند توفر شروط الانتقال اللازمة لقبولها في المجال المعرفي والفكري الجديد، بينما لم تؤد إلى إثرائها في أقاليم أخرى، يتوقف ذلك على كيفية الانتقال وشروطه وعوائقه، ومختلف عمليات التمثل والتأسيس.” (كوش، 2002، ص. 40)
وقد اختار مثالاً في غاية الأهمية لتبسيط هذه الفكرة وتوصيلها للقارئ، وهو الكوجيتو الديكارتي. ويبين ذلك بقوله: إن “من بين المفاهيم الأكثر شهرة في الفلسفة الحديثة، مفهوم الأنا الديكارتي: الكوجيتو، أو مفهوم الذات المفكرة، الذي يعتبر مفتاح القول الفلسفي الحديث. وقد شكل هذا المفهوم الحدث الفكري المتجدد للحداثة، إذ انشغل به معظم الفلاسفة التالين لـ”ديكارت”، بدءاً من “كانط” و”هيغل”، وصولاً إلى “فوكو” و”دولوز” و”ديريدا”، ويقوم هذا المفهوم على مركبات ثلاثة هي: الأنا (الذات)، والتفكير (الفكر) والوجود (الكينونة)، تلتقي في صيغة: “je pense; donc je suis”، التي ترتكز على صيغة المتكلم، دون غيرها، تأكيداً على الذات وتمركزها. ويشكل الشك مكوناً رئيسياً من مكونات الكوجيتو، أنا الذي أشك، أفكر، فأنا أكون، لأني أفكر، لكن الشك يحمل أطواراً متغيرة: شكلاً حسياً، وشكلاً علمياً ومنهجياً.. إلخ.” (كوش، 2002، ص. 43)
ويتخذ كوش موقفاً مشابهاً لموقف بدوي، فالكوجيتو الديكارتي يتعدى كونه مجرد مفهوم فلسفي إلى “الحدث المؤسس للحداثة، التي انبثقت عن حراك اجتماعي واقتصادي، ودخلت مرحلة العقل الفلسفي، بعد أن أزاحت عن طريقها العقل الديني، ثم انتقلت من بعد ذلك إلى طور العقل العلمي، وترافق ذلك مع تطورات في البنى الاقتصادية والاجتماعية، تجلت في صعود الرأسمالية، وسيادة القانون وفق روح الشعب، وولادة الفردية (الذاتية) والمواطنية.” (كوش، 2002، ص. 44-45) وهو موقف يتصف ببعض المبالغة والتضخيم للدور الذي قد تلعبه هذه المصطلحات والمفاهيم كالكوجيتو الديكارتي والكوميديا والتراجيديا.
وقد انتقل هذا المفهوم إلى الكثير من الأقاليم الحضارية الحديثة عبر الترجمة والتمثل والاقتباس، وانتقل هذا المفهوم إلى اللغة والثقافة العربية في ترجمات مختلفة، تعكس جميعها المعنى ذاته. “ترجمة محمود الخضيري في صيغة (أنا أفكر، إذن فأنا موجود)، وترجمة نجيب بلدي في صيغة: (أفكر، إذن أنا موجود)، ومؤخراً ترجمه عبد الرحمن في صيغة: (انظر تجد).” (كوش، 2002، ص. 44) ويختم كوش الكتاب بذكر اقتباسات وترجمات أخرى متعددة ومختلفة لهذا المفهوم، ومنها دخوله لحيز الأحاسيس والشعر. فيذكر اقتباس الشاعر الفلسطيني محمود درويش كما ذكره في قصيدة «جدارية»: “أنا من تقول له الحروف الغامضات: اكتب تكن! واقرأ تجد!” (كوش، 2002، ص. 172)
وتطبيقاً لما ذُكر من نظريات وفرضيات، نجد أن فواز الطرابلسي قد استخدم أغلبها عند كتابته لحوليات «حرير وحديد: من جبل لبنان إلى قناة السويس»، فلم يكتفِ الطرابلسي بأقلمة المفاهيم، وإنما تجاوزها لأقلمة الأسماء والحركات الاجتماعية.
حوليات عالمية: مصير واحد لثقافات مختلفة
فواز الطرابلسي، الحاصل على الدكتوراه في التاريخ من جامعة باريس والأستاذ في الجامعة الأمريكية ببيروت، بالإضافة إلى شغله لمنصب رئيس تحرير جريدة الحرية ومجلة بيروت المساء، قام في كتابة «حرير وحديد: من جبل لبنان إلى قناة السويس» الذي نشرت طبعته الأولى دار رياض الريس للكتب والنشر ببيروت سنة 2012، بالجمع بين خيوط عديدة لثقافات متعددة فيروي الأحداث بتسلسل زمني متجاهلاً خطوط الجغرافيا الوهمية التي تحد بين الأمم، فأبطال الكتاب ينتقلون في مختلف بقاع الدنيا بكل سهولة وسلاسة. ولعّل من أكبر التحديات التي واجهته أثناء كتابته هو إيجاد هذه الشخصيات الحقيقية، والتي تلعب دوراً هاماً في الأحداث العالمية والمحلية، والتي “جمعها… من مدونات وكتابات وسير وشهادات… لمؤرخين ومثقفين ومغامرين ومبشرين [ومستشرقين]، ورجال إرساليات تعليمية وتبشيرية. كُتبت [جميع] كلها في القرن التاسع عشر بين لبنان ومصر ولندن ومدريد وباريس، وغيرها من العواصم الأوروبية. وقام طرابلسي بتركيبها وتنسيقها لتقدم ما يشبه صورة شبكية عن حوادث وشخصيات في ذلك القرن.” (مطرا، 2017)
وقد استخدم الطرابلسي مسألة أقلمة الأسماء أحسن استخدام. فلو اتفقنا على تعريف الترجمة بأنها “خلق معنى مقابل بلغة ثانية” فستصبح ترجمة الأسماء، أو أقلمتها: “خلق شخص مقابل في بيئة ثانية” ولعل هذا الانفصام يفتح المجال للعديد من الأسئلة والشكوك التي قد تشير – ولو بصورة غير مباشرة – إلى أن بعض هذه الشخصيات تعمل في الجوسسة. ولعل أفضل مثال على ذلك، الليدي هستر أو الست. لقد اكتسبت الست ألقاباً وأسماءً مختلفة في هذا الكتاب، وكأن هذه إشارة إلى كونها قد تلونت بألوان عدة ولبست وجوهاً كثيرة. ويشير الطرابلسي في أكثر من موضع إلى قوة الست وتمكنها من تغيير مجرى الأمور وخاصة فيما يتعلق بالقرار السياسي، وهو أمر يشير وبوضوح إلى إمكانية كونها جاسوسة.
أما بالنسبة لبقية الأسماء التي خضعت للأقلمة: فقد تُرجم كارل ماركس للدكطر الألماني، وفريدريك إنجلز إلى فريدريك الملائكة، وسيمون إلى سمعان، وإنفنتاين إلى السمعاني. وبهذه الأقلمة، قام الكاتب بتطويع هذه الأسماء لتنسجم مع الحيز العربي أو الشرقي، وهو أمر في حد ذاته فريد ونادر في وقت أصبحت أكثر التيارات الثقافية والفكرية تصب في تقريب واقعنا العربي والشرقي للغرب وليس العكس.
وفي الختام، أعود لسؤال البداية، وأكرره: هل نصنع الكلمة؟ أم تصنعنا؟ وأحاول أن أستعين بهذه الكتب لمعرفة الجواب، ولكنني لا أهتدي إلى السبيل. فقد وجدت أن النظريات قد تعددت وتكاثرت. إلا أنه من السليم أن أستنتج بعد هذه القراءات والنقاشات المكثفة وجود شقين مختلفين في المشهد الثقافي العربي، أحدهما – يمثله في هذه المقالة – بدوي وكوش، والآخر يمثله كيليطو والطرابلسي. فيرى الشق الأول أن الكلمة، بل ترجمة الكلمة على وجه الخصوص هي المسؤولة وإلى حد كبير عن نهضة الأمة العربية أو التحاقها بركب الحداثة. أما الشق الثاني فالكلمة بالنسبة إليه مجرد لعبة، لعبها من قبلنا وقبالنا، وعلينا أن نلعبها، وربما نأقلمها كما فعل الطرابلسي، أو على الأقل نبسط من الدور المنسوب لها – ربما باطلاً – كما ذكر كيليطو الذي خفف من فداحة خطأ متّى بن يونس، فماذا لو لم يكن بمقدور العقل العربي في القرن العاشر أن يفهم التراجيديا والكوميديا إلا على أنها مدح وهجاء؟ ماذا لو كانت الكلمة هي السابقة وليس المعنى، وبذلك أصبح لكلمتي الكوميديا والتراجيديا معناً في العقل العربي اليوم؟ أسئلة كثيرة، آمل أن أتمكن من الإجابة عنها في الجزء الثاني من استديو الأبحاث: تداخلات.
ملاحظات:
*للمزيد من المعلومات عن استوديو الأبحاث: تداخلات والكتب المقترحة من قبل الأستاذ عمر برادة، يرجى الاطلاع على الرابط التالي: هنا
المراجع:
أحدث التعليقات