الصفحة الرئيسية / مراجعات / خمسون حكمة حول العالم / الحكمة (5): «يوميات نص الليل» لمصطفى محمود
أقف اليوم في محطتي الخامسة: مصر (أم الدنيا). في الحقيقة، ترددتُ بعض الشيء قبل أن أختار لمن سأقرأ من مصر، بلد المبدعين والكتّاب. تذكرت «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ، ولست متأكدة إن كنتُ قد قرأتها من قبل، كما خطر في بالي أحمد خالد توفيق وغيره الكثير من الكتّاب المصريين المبدعين، لكن وبينما أنا في حيرة من أمري وقع بين يدي كتاب الدكتور مصطفى محمود «يوميات نص الليل» ومنذ الصفحات الأولى أدركت أنه سيكون الخيار الأنسب. نشر النسخة التي قرأتها قطاع الثقافة بأخبار اليوم في 2008 في القاهرة. صدرت الطبعة الأولى في عام 1966.
انطلاقاً من (الطفل العميق) وحتى (سر الحياة)، يمرّ الكاتب بـ17 محطة تتحدث عن الخوف، الشر، الشك، الجمال، الحرية، والغرور. بيد أن القاسم المشترك بين جميع هذه المقالات هو الإنسان.
الجميل في سرد مصطفى محمود هو عدم اكتفائه بالكتابة عن الإنسان من منطلق شاعري ورومنطيقي فقط، بل إن خطابه يتضمن أيضاً المنظور الطبي والعلمي نتيجة لخلفيته الطبية.
وأنا أقرأ الكتاب، تخيلتُ مصطفى محمود وهو جالس في شك وتوتر يفكر فيما سيكتبه، وكيف سيكتبه. الكلمات تتكاثر في داخله كخلايا فيروس خطير والأفكار تتلاطم في حيرة من أمرها. يُمسك جبينه بالسبابة والإبهام، ويغوص في توتره، وفي نهاية المطاف يمسك بالقلم والكرّاس، ويشرع في الكتابة.
وعندما وصلتُ إلى نهاية الكتاب، وبعد قراءة مقال (الغرور) تحديداً، تأكدتُ أن خياله في ذهني يستحيل أن يكون صحيحاً. فالدكتور مصطفى محمود ليس بالرجل المتوتر والمتردد. إنه واثق في كل كلمة يكتبها كطبيب ماهر يعلم تشخيص المريض من الثواني الأولى. في هذا المقال، يقول محمود: “هذا المقال نفسه غرور. وهذه الثقة التي أكتب بها غروراً.” (ص. 114) ما عساي أن أقول بعد هذا الاعتراف الصريح سوى الدعاء: اللهم ارزقنا بعضاً من غروره!
كم أتمنى لو كتبتُ بهذا الغرور. لو عشتُ بهذا الغرور، دون أن أتساءل عن صحة ما أفعله في كل لحظة من يومي، ودون أن أشك في كل قرار اتخذه. هل ما أعيشه يقتصر علي وحدي أم أننا كجيل كامل لا نملك ربع هذا الغرور؟
لا أملك ما يكفي من المعلومات والدراسات حتى أجيب عن هذا السؤال، لكن يمكنني القول إن هنالك صوتاً رجولياً واثقاً ومغروراً لم نعد نسمعه بين سطور كتابات اليوم. التردد، الحيرة، التوتر كلها باتت ثيمات تجمع بين الرجل المعاصر، سواء كان حقيقياً، أو من ورق. أعجبني الصوت الواثق كثيراً، وتمنيت لو نقرأ كتباً مماثلة بأقلام الكتّاب المعاصرين. ترى هل ذلك ممكن؟
الحكمة من الكتاب:
هذا كتاب عن الحياة. يقول مصطفى محمود: “المخاطرة التي تشوقني وتخبل عقلي.. هي قصة الحياة بعد نشأتها.. خط سيرها.. وتطويرها.. وانتقالها من نوع إلى نوع وتسلقها البر والبحر والهواء.. واندلاعها مثل شعلة نار أمسكت بمخزن من البارود، فانفجرت في كل اتجاه.” (ص. 96)
والحكمة منه هي التذكير بماهية هذه الحياة الرخوة والصادمة والمتفجرة والمتجددة. بتوترها الذي يبعث فينا آلاف الاعتراضات والثورات والفرحات. بالصدف التي تجعلنا ننصدم بواقعها تارة، ونفرح بما تجلبه لنا تارة أخرى.
من بروجنا المشيدة نشاهد الحياة، ونتابعها متناسين أننا جزء منها، وأن جنونها سيصيبنا لا محالة. فنحن منه وهو منّا.
اقتباسات من الكتاب:
“إن الجرائم تحدث لأن هذه هي حقيقة الإنسان.. وهذا واقع تفكيره.. وليس لأنه يقرأ أخبار الجرائم في الصحف.”(ص. 13)
“الكلمات ليست سوى اصطلاحات مُرغمة على دلالات هي بريئة منها… مجرد بطاقات كبطاقات التسعيرة قابلة للاستبدال من بلد إلى بلد ومن لغة إلى لغة ومن زمن إلى زمن… أما الحقيقة ذاتها فهي بلا اسم. الحقيقة مطلقة من الأسماء… نباشرها بقلوبنا ولا نستطيع أن نسميها بأسماء تحيط بها.” (ص. 6)
“الحياة الطبيعية حياة خشنة فيها تضاريس ومرتفعات ومنخفضات ومطبّات وقبلات وصفعات ولكمات.. والحياة الطبيعية فيها مصادمات.. وهي مصادمات ليست كلها شراً – ولكن بعضها مصادمات فاضلة.. كالهرمونات.. تستفز وتنبه.. وتشحذ… وتحفظ المسافة بين كل فرد وآخر فلا يذوب الناس في بعضهم كالسبيكة.. ولا تتحول البشرية إلى قطيع.. وإنما يظل للأفراد كيانهم واستقلالهم.. يظل لكل واحد فلكه الذي يدور فيه.. ومجاله الحيوي الذي يعبر فيه عن نفسه.” (ص. 15)
“في الطبيعة عنف.. ولا بد أن يحتفظ الواحد منا بعنفه وتوتره وتحفّزه ليستطيع أن يجابه عنف الطبيعة وضراوتها.” (ص. 17)
“الفلاسفة يقولون إن الشر هو ثمن الحرية. كان لا بد لتوجد حرية أن يلازمها الشر كعرض من أعراضها.. فالحرية تستدعي الاختيار الحر.. وتستدعي أن تكون للإنسان إمكانية الصواب.. وإمكانية الخطأ.. وحرية أن يفعل ما ينفعه أو ما يضره.. ولو أن إرادته اقتصرت على توجيهه إلى النافع لما كان بذلك حراً.. ولأصبحت حياته ذات وجهة واحدة وطريق واحد.. لا اختيار فيه.” (ص. 24)
“الجمال قيمة مرتبطة بالذات.. بالروح المدركة، ولا يمكن فصلها عن الحياة لأنها أصيلة فيها.. وكل نظرية تفسر الحياة كمادة دون أن تفسرها كقيم جمالية هي نظرية ناقصة.” (ص. 34)
“إن كل ما هو واضح ومحدد ومفهوم في هذه الدنيا لا يدل عليها.. وإنما يدل على غرورنا فقط. إن أكثر الأشياء دلالة على حقيقة هذه الدنيا هو جانبها المحجوب الخفي الحاضر في وجداننا الغائب من حواسنا.” (ص. 45)
“الجمال لا يوجد في الرسم نفسه.. ولا في اللحن بدليل أن الآذان البليدة.. والعيون البدائية قد يفوتها ما في اللحن وما في الرسم.. وقد تنظر وتسمع فلا ترى ولا تسمع شيئاً. سرّ الجمال في النفوس التي ترى وتشاهد وتصغي.” (ص. 61)
“أنت لا تسافر حينما تغير مكانك.. ولكنك تكون قد سافرت حينما توسع ثقافتك.. وتثري من عاطفتك وتجدد من روحك.” (ص. 69)
“السر في أن أغلب الناس عاديون.. أن اكتشاف الإنسان لنفسه وتعرفه على كنوزه ومواهبه ليس شيئاً هيناً.. وإنما هو اكتشاف أصعب من غزو الفضاء.” (ص. 73)
“هذه الزوابع النفسية التي تهب علينا من داخلنا.. هي من روح الله فينا. والإنسان القلق ليس إنساناً مريضاً. وإنما المريض هو ذلك الإنسان الآخر الهادئ الكسول القنوع المستقر والمسترخي.” (ص. 100)
“مشكلة الإنسان ليست من السذاجة بحيث يحلها لقاء جنسي ومصروف جيب.. وهي في العادة لا تنتهي بهذه المسكنات وإنما تبدأ فيكشف القلق عن وجهه المجرد بعد أن يرتوي وجهه الآخر المادي.. فإذا به قلق أصيل.. قلق في النخاع.. في الروح.. وما تلبث أن تنتقل المشكلة إلى مستوى آخر.. إلى مستوى روحي.. فيطلب الإنسان حريته بعد أن يجد وجبته.. ويبحث عن إلهه بعد أن يجد نفسه.”(ص. 103)
“لا يوجد قانون أرضي يستند إلى حق إلهي.. إن القوانين الإلهية ينفذها الله نفسه.. وهي لا تحتاج إلى استئناف.. أمّا قوانينا نحن.. فعلينا أن نغيرها دائماً.. من أجل الناس.. فهي مجرد قوانين أرضية .. مرتبطة بظروف وضعية وزمنية محددة ومؤقتة.” (ص. 106)
الختام:
بعد قراءة هذا الكتاب، سيدرك القارئ أنه لا مهرب من هذه الحياة، فهي فينا ونحن فيها، كلانا وجهان لعملة واحدة. لطاقة واحدة. ولقواعد كونية واحدة تأخذنا حيثما تريد. إنه كتاب عن ثورة العيش!
أحدث التعليقات