الصفحة الرئيسية / مراجعات / خمسون حكمة حول العالم / الحكمة (2): «النبي» لجبران خليل جبران
أقف اليوم في محطتي الثانية: لبنان تضامناً مع شعبها المناضل إثر انفجار بيروت. بحثت في مكتبتي مطولاً، ولم أجد أفضل من كتاب «النبي» لجبران خليل جبران في نسخته التي نشرته دار عصير الكتب للنشر والتوزيع في سنة 2019 في القاهرة. يتكون الكتاب من 29 مقالاً مترابطاً. يضع المقال الأول – المُعَنوَن بـ(النبي)- الأساس الذي يجمع بقية المقالات الوعظية الأخرى، إذ يسرد لنا قصة النبي المقيم في مدينة أورفليس الوهمية. “في السنة الثانية عشرة، في اليوم السابع من أيلول شهر الحصاد، صعد إلى قنة إحدى التلال القائمة وراء جدران المدينة، وألقى نظرة عميقة إلى البحر، فرأى سفينته تمخر عباب البحر مغمورة بالضّباب.” (ص. 9) وبينما كان يحاول الرحيل عن المدينة، استوقفه شعبها، وظلّ يمشي معهم إلى أن وصلوا إلى الساحة الكبرى أمام الهيكل. هنالك وقف أمامه 27 شخصاً يسألونه في شؤون الروح والحياة والمجتمع (كالمحبة، الزواج، الأبناء، العطاء، الغذاء، العمل… إلخ). كل سؤال يعلن بداية مقال جديد يجيب عنه النبي بموعظة عميقة إلى أن يصل إلى مقال (الوداع) الأخير.
يُعد كتاب «النبي» لجبران خليل جبران من أكثر الكتب شهرة وانتشاراً في عالمنا العربي والعالم أجمع بعد أن ترجم من الإنجليزية إلى ما يزيد عن خمسين لغة، ونظراً لشهرته، فقد سمعت عنه الكثير. عندما كنت صغيرة، كنت أعتقد أنه عن النبي محمد ﷺ، وكأنه اعتقاد طفولي بأنه لا وجود لنبي غيره. أمّا الآن وبعد أن قرأته، فلا يسعني إلّا أن أشكر جبران على إبداعه وتحدّيه لما يُعتبر من المسلمات في مجتمعاتنا الشرقية (مسلمة، مسيحية، يهودية، درزية أو غيرها) والتي لا تقبل التفكير أو الإبداع في الأمور الدينية. لقد تحدى جبران القيود المجتمعية وكتب عن نبي جديد أتى بدين القرن العشرين، لذا عُرف الكتاب بـ “إنجيل جبران”. يجمع العمل بين الأدب، الفلسفة، والتنمية البشرية، إذ يحتوي على الكثير من النصائح والعبرات المفيدة والتي أظن أن معظمها مقتبس من ديانات سائدة (كالبوذية والمسيحية… إلخ).
أكثر ما أعجبني في الكتاب هو عمق معانيه على الرغم من قلة صفحاته. ، إذ تسود جميع مواعظ النبي روح قبول وتفهم عظيمة أتمنى لو تمكنت من اكتسابها، فحتى في سياق حديثه عن الخير والشر قال لتابعيه:
“إن الخير الذي فيك إنما هو في حنينك إلى ذاتك الجبارة، وهذا الحنين فيكم جميعكم، غير أنه يشبه في البعض منكم سيلاً جارفاً يجري بقوة منحدراً إلى البحر، فيحمل معه أسرار التلال والأودية وأناشيد الأحراج والجنان. وفي غيرهم أشبه بجدول صغير يسير في منبسط من الأرض، يريق ماءه في الزوايا والمنعرجات؛ ولذلك يطول به الزمان قبل أن يصل إلى الشاطئ. ولكن لا يقل ذو الحنين الكثير إلى ذي الحنين القليل: (لماذا أنت كسيح بطيء؟) لأن الصالح لا يسأل العراة: (أين ثيابكم؟)، ولا الغرباء: (أين منازلكم؟).” (ص. 101-102)
أعتقد أن هذا المنظور الشمولي للمجتمع والبشر على أنهم متشابهين في جوهرهم (في قوله “هذا الحنين فيكم جميعكم”) أقرب للحقيقة من تصنيف العباد إلى صالح وطالح. كما تشير فلسفته إلى أن المجتمعات تعكس أفرادها وليس حكّامها:
“إن كانت طاغية تودون خلعه عن عرضه فانظروا أولاً إن كان عرشه القائم في أعماقكم قد تهدّم؛ لأنه كيف يستطيع طاغية أن يحكم الأحرار المُفتخرين، ما لم يكن الطغيان أساساً لحريتهم، والعار قادة لكبريائهم؟” (ص. 75)
ويدل الاقتباس السابق إلى أن كل فرد في المجتمع مسؤول عن مصير هذا المجتمع إذ لا تقتصر هذه المسؤولية على القادة فقط، أمّا بالنسبة للحرية، فحرية جبران زئبقية الصفات وليست بالضرورة إيجابية:
“قد طالما رأيتكم ساجدين على رُكبكم أمام أبواب المدينة، وإلى جوانب المواقد تعبدون حريتكم. وأنتم بذلك أشبه بالعبيد الذين يتذللون أمام سيدهم العَسوف الجبار، يمدحونه ويُنشدون له، وهو يُعمل السيف في رقابهم. نعم، وفي غابة الهيكل، وظل القلعة، كثيراً ما رأيت أشدكم حرية يحمل حريته كنير ثقيل لعنقه وغُل متين ليديه ورجليه.” (ص. 73)
الحكمة من الكتاب:
إن سئل نبي جبران عن الحكمة من رسالته لقال كلمة واحدة: المحبة. فالمحبة موضوع مشترك بين جميع المقالات على اختلافها، وقد ذكرها النبي في سياقات متعددة منها – على سبيل المثال لا الحصر – ما ذكره في مقال (المحبة): “إذا أشارت المحبة إليكم فاتبعوها، وإن كانت مسالكها صعبة متحدرة” (ص. 19) ومقال (العمل): “إن العمل هو الصورة الظاهرة للمحبة الكاملة” (ص. 46).
اقتباسات من الكتاب:
“إن المحبة منذ البدء لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق.” (ص. 15)
“إذا خاطبتكم المحبة فصدقوها، وإن عطل صوتها أحلامكم وبددها كما تجعل الريح الشمالية البستان قاعاً صفصفاً.” (ص. 19)
“المحبة لا تعطي إلا نفسها، ولا تأخذ إلا من نفسها.” (ص. 21)
“إذا أحببت فلا تقل: (إن الله في قلبي)، بل قل بالأحرى: (أنا في قلب الله).” (ص. 22)
“إن أولادكم ليسوا أولاداً لكم. إنهم أبناء وبنات الحياة المشتاقة إلى نفسها. بكم يأتون إلى العالم، ولكن ليس منكم.” ( ص. 29)
“هنالك الذين يعطون ولا يعرفون معنى للألم في عطائهم، ولا يتطلبون فرحاً، ولا يرغبون في إذاعة فضائلهم، هؤلاء يعطون مما عندهم كما يعطي الريحان عبيره العطر في ذلك الوادي. بمثل هؤلاء يتكلم الله، ومن خلال عيونهم يبتسم على الأرض.”(ص.34-35)
“إن الحياة تكون بالحقيقة ظلمة حالكة إذا لم ترافقها الحركة، والحركة تكون عمياء لا بركة فيها إن لم ترافقها المعرفة، والمعرفة تكون عقيمة سقيمة إن لم يرافقها العمل، والعمل يكون باطلاً بلا ثمر إن لم يقترن بالمحبة؛ لأنكم إذا اشتغلتم بمحبة فإنما تربطون أنفسكم وأفرادكم بعضها ببعض، ويرتبط كل واحد منكم بربه.” (ص.45)
“مع كل ما يزين منازلكم من الجلال والجمال، فإنها لن تستطيع أن تحتفظ بسركم أو أن تؤدي حنينكم؛ لأن غير المحدود فيكم يقطن في منزل السماء، الذي بوابته سحابة الصباح ونوافذه سكون الليل وأناشيده.” (ص. 56)
“إن رغب أحد منكم في أن يضع الفأس على أصل الشجرة الشريرة باسم العدالة، فلينظر أولاً إلى أصل جذورها. وهو لا شك واجد أن جذور الشريرة، وجذور الصالحة، وغير المثمرة، كلها متشابكة معاً في قلب الأرض الصامت.”(ص. 66)
“الألم ماء مُحيٍ.” (ص. 83)
“المعلم الذي يسير في ظل الهيكل مُحاطاً بأتباعه ومريديه، فهو لا يعطي شيئاً من حكمته، بل إنما يعطي من إيمانه وعطفه ومحبته؛ لأنه إذا كان بالحقيقة حكيماً فإنه لا يأمركم أن تدخلوا بيت الحكمة، بل يقودكم بالأحرى إلى عتبة فكركم وحكمتكم.” (ص. 89)
“إن بينكم قوماً يقصدون الثرثار المهذار، ضجراً من الوحدة والانفراد؛ لأن سكينة الوحدة تبسط أمام عيونهم صورة واضحة لذواتهم العارية، يرتعدون لدى رؤيتها فيهربون منها.” (ص. 96)
“إن الجمال هو الحياة بعينها سافرة عن وجهها الطاهر النقي. ولكن أنتم الحياة وأنتم الحجاب. والجمال هو الأبدية تنظر إلى ذاتها في مرآة، ولكن أنتم الأبدية وأنتم المرآة.” (ص. 113)
“إذا رغبتم بالحقيقة في أن تنظروا روح الموت، فافتحوا أبواب قلوبكم على مصاريعها لنهار الحياة؛ لأن الحياة والموت احد، كما أن النهر والبحر واحد أيضاً؛ ففي أعماق آمالكم ورغباتكم تتكئ معرفتكم الصامتة لما وراء الحياة.” (ص. 120)
الختام:
كتاب «النبي» لجبران خليل جبران ليس من الكتب التي تقرأ مرة واحدة، فهو بمثابة نصائح روحانية عميقة وجامعة يُمكن الرجوع إليها متى ما ضقنا ذرعاً بالحياة وأردنا البحث عن منظور مغاير يدفعنا لإدراك المحبة في أكثر الظروف صعوبة. أنصح بقراءته أو على الأقل الاستماع إلى أغنية فيروز المُقتبسة منه، وعنوانها: المحبة.
أحدث التعليقات