رواية «حارس الموتى» لجورج يرق

جورج يرق كاتب وروائي لبناني، مارس العمل الصحافي لعدة عقود كما عمل محرراً وسكرتير تحرير وكاتباً حراً في عدة صحف ومجلات لبنانية. نشرت له دار مختارات في بيروت روايته الأولى «ليل» سنة 2013، والتي لم تختلف كثيراً في موضوعها عن روايته المرشحة للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، «حارس الموتى» والتي نشرتها منشورات ضفاف في بيروت سنة 2016.( خالدية، 2016) تتشارك الروايتين الموضوع ذاته وهو الحرب الأهلية اللبنانية، إلا أن ما يميز رواية «حارس الموتى» هو أن جورج قد كتب بعض أجزائها قبل ثلاثة عقود وأكملها مؤخراً.

تمر السنين، إلا أن الواقع لا يتغير كثيراً، فها هي الحرب الأهلية التي شهدها بطل الرواية، عابر الليطاني، قبل ثلاثين سنة لا تزال تمثل الواقع اللبناني، مما جعل من الاستمرار في كتابة الرواية بعد كل هذه الأعوام أمراً ممكناً، يقول جورج يرق في أحد اللقاءات التلفزيونية التي عرضتها قناة «الغد العربي» اللبنانية بهذا الشأن:

“كتاب «حارس الموتى» خُلق تقريباً قبل ثلاثين سنة عندما كنت أسكن في بيت الطلاب الذي كان يحتوي على اثنى عشر طالباً، وكان أحد الطلبة يعمل في ثلاجة الموتى ويروي لي كل يوم في العشية ما الذي يحدث معه، فتراكمت القصة في ذهني بسبب الأمور الغريبة التي كانت تحدث معه أيام الحرب، فأخذت أجمع هذه الأخبار في ذاكرتي، وقلت سأوظف هذه الأحداث ذات يوم في كتابٍ أو روايةٍ ما. حينها كتبت اثنى عشر فصلاً من الرواية ونشرت جريدة النهار [اللبنانية] فصلين منهم تحت عنوان “حارس الموتى” ولاقى الفصلان الكثير من التجاوب لدرجة أن أحد النقاد شجعني كي أتابع كتابة الرواية.” (يرق، 2016)

وبالفعل، تمكن جورج أخيراً من تقديم رواية «حارس الموتى» في ثلاث مائة وأربع صفحات وصل فيها عدد الفصول لواحد وأربعين فصلاً يمر خلالها بطل الرواية، عابر، بمحطات كثيرة ومغامرات أكثر، ويمكن تقسيم المراحل التي مر بها عابر الليطاني إلى ثلاث مراحل وهي: الفترة التي قضاها في القرية، والفترة التي قضاها في الحزب، والفترة التي قضاها في المستشفى حارساً للموتى.

يعبر عابر أجزاء الرواية متنقلاً من حبكة معقدة لأخرى أشد تعقيداً، إلا أن الحاضر الوحيد طيلة هذه الأجزاء هو “الموت” و”القتل”
منذ الصفحات الأولى للرواية، إذ يقول عابر متحدثاً عن الرجل المصاب الذي يعتقد أن عابر من أصابه: “لا أضمن ماذا قد أفعل إذ شعرت أنني في خطر. لم يسبق لي أن مررتُ بمثل هذه التجربة، قد أقتله بخرطوشة واحدة. وبإمكاني أن أسدد بين عينيه وأصيب الهدف،” (ص. 9) ليتبين بعدها أن الرجل المصاب أصيب بسبب الاختلافات المذهبية والسياسية بينه وبين مجموعة من الرجال اللذين انقضّوا عليه وضربوه بالقرب من مكب الزبالة لأنه شتم الحزب الذي ينتمون إليه، فتورط عابر  في القضية بعد أن رآه الرجل المصاب فاضطر للهرب خارج القرية التي كان يقطنها.

بعد أيام عاش فيها الجوع والفقر والحرمان والتشرد بعيداً عن قريته وأهله، وجد بطل القصة نفسه منقاداً إلى أبواب أحد الأحزاب السياسية فيعبر عن ذلك بقوله: “الالتحاق بإحدى الميليشيات هو الخيار الوحيد. في الأقل، يوفر لي ذلك فرشة وطعاماً.” (ص. 56) ليتم توظيف مقدرته على التصويب بجعله أحد القناصة، إلا أنه لم يكن يشارك في قتل البشر، فكان يكتفي بالقدوم للبناية في مواعيد مناوبته لا للقنص، وكان كثيراً ما ينام أو يطالع وعندما تنتهي مناوبته يعود للثكنة. إلا أن زملاءه لم يكونوا مثله، فزميله الملقب بـ”بو فهد” أخبره “بأن سعادته القصوى عندما يقنص أحدهم ويرى المارّة وقد تجمهروا حوله. فال إن نوبة من الضحك تدهمه في تلك اللحظات، فيستأنف القنص على المحتشدين حتى يتفرقوا. ثم يكمل القنص على الرجل الجريح إلى أن يتأكد له موته. ومنتهى التشويق حين يروح يصطاد كل من يدنو إلى الضحية.” ( ص. 92)

إلا أن شهية القتل لم تكن الشهية الوحيدة لرجال الحزب أو الميليشيات، بل إنهم يتمتعون بأكثر من شهية ويحصلون على رغباتهم بالطريقة ذاتها التي يشبع فيها بو فهد رغبته في القتل، وهو أمر جديد على عابر القادم من قرية بسيطة ذات دولاب بسيط ومشاكل متواضعة، فأخذت كل هذه الأحداث تؤثر فيه بصورة كبيرة لنلمح تغيراً ملحوظاً خلال صفحات الرواية، فيقول معبراً عن تغيره الكبير: “يخالجني شك في أني أنا… لا يمكن أن [أ]كون ذلك الفتى الذي يخدم في قدّاس الأحد ويربط للعصافير ويخاف ظلّه في الليل.” (ص. 192))

لعبت الدور الأكبر في هذا التغير أحداث الجزء الأخير من الرواية، فبعد أن قتل صديقه المقرب في الحزب، اضطر للهرب مرة أخرى والبحث عن وظيفة تبعده وتخفيه عن أفراد الحزب، فاقترح عليه الطبيب الذي كانت تعمل عنده قريبته أن يعمل حارساً للموتى. في البداية عارض الأمر ونكره على نفسه في قوله: “أنا عابر ليطاني أشتغل في برّاد الموتى؟ مستحيل. لن أقبل… صحيح أنني مستعد لأي عمل، فالشغل ليس عيباً لكم العمل في برّاد الموتى مرفوض.” إلا أنه اضطر للقبول، فيقول لاحقاً: “ما جعلني متردداً، أو ميّالاً إلى القبول في آخر المطاف، هو إمكان المبيت في المستشفى. ربّما عرفت أن ذلك نقطة ضعفي، فنقرت عليها.” (ص. 148)

تحول عابر من شخص غير مستعد لقبول عمل حساس ومتعب كحارس للموتى، إلى رجل يشتهي الجثث الميتة، فيقول: “لم يسبق أن حدث لي ما يحدث لي الآن: اشتهاء شابّة ميتة.” (ص. 206) إلا أن سقوطه لم يقف عند هذا المستوى وتابع الانحدار إلى أسفل، وخاصة بعد أن أدرك أن “كلو بيسرق من كلو” وأن المستشفى تبيع الدواء الممنوح لها كهبة من جمعيات خيرية للمرضى فعبر عن تأثره بذلك في قوله: “لكن ثمة سؤال لا يفارقني وقد غير نظرتي إلى كثير من الأمور، هو لماذا يقبض المستشفى من المرضى ثمن الدواء المُتبرع به. ولا يستثنى من الدفع جرحى القصف والمعارك والفقراء.” (ص. 241) نتج عن هذا التغيير رغبة عابر في إيجاد نصيب له كما وجد المستشفى نصيباً له من جيوب المحتاجين والمرضى، فأخذ يسرق من جارور الراهبة بعد أن نسخ مفتاحها. إلا أن هذه السرقات البسيطة والغير منظمة لم تدم، فنجده قد تحول إلى سرقة أسنان الموتى الذهبية وبيعها للصائغ، ولعل المفارقة هنا تسميته بحارسٍ للموتى على الرغم من كونه سارقهم.

تنتهي الرواية بمشهد اختطاف عابر ورميه تحت الجسر بين الحياة والموت فيقول عابر في السطر الرواية الأخير: “بين الحياة والموت، رحت أنادي بعيني المرتجفتين ظلال العابرين على الجسر،” (ص. 304) ولعل هذا المشهد هو مجرد تكملة لمشهد آخر في حلم عابر رأى فيه نفسه وهو ميت وينظف نفسه مجهزاً جسده للدفن، فيقول: “رأيتني فيه بالبراد جثة مرمية بين الجثث الأخرى… وأبصرتني مرتبكاً عندما حان أوان إلباس الجثة الثياب تمهيداً لتسليمها إلى أهل الفقيد” (ص.189) لذا لا يجد القارئ أي مفاجآت في نهاية الرواية المفتوحة لأن رائحة الموت ونفسية ترافق القارئ منذ الصفحات الأولى للرواية عاكسةً بذلك واقعاً لا يمكن إنكاره، واقعاً تفوح منه رائحة القتل وغرائز أخرى وحشية، واقعاً ممتزجاً بمزاج الموت الذي يعيشه الفرد في عالمنا العربي ولذا لا يختلف الأمر كثيراً إذا ما توفي أو بقى حياً لأنه في الحالتين ميت.

المراجع:

جورج يرق (03/04/2016) “”حارس الموتى”.. رواية قصيرة على لائحة جائزة بوكر العربية،” قناة الغد العربي (برنامج الصورة بكل الأبعاد)

جهينة خالدية (09/02/2016) ” تعرف إلى الروايات الـ6 وكتابها في قائمة “بوكر” القصيرة 2016،” بوابة العين الإخبارية

 

 

أحدث التعليقات