طارق البكاري، كاتب مغربي متحصل على شهادة الإجازة في الأدب العربي من كلية الآداب في مدينة فاس وخريج المدرسة العليا للأساتذة بمدينة مكناس. كتب العديد من المقالات والأعمال الأدبية التي نشرت له ورقياً وإلكترونياً، أما بالنسبة لروايته الأولى فهي “نوميديا”، الرواية التي تأخذك لعالم مغربي ذي رونق خاص.
رواية للكاتب طارق بكاري والتي نشرتها دار الآداب للنشر والتوزيع في بيروت سنة 2015، تمثل إبداعاً أدبياً لكاتب شاب أتقن الإمساك بالقلم، و نجح في تقديم أسلوب بليغ وأدبي على عكس العديد من الروائيين العرب الذين يكتبون بأسلوب صحفي بحت ويركزون على الموضوع أكثر من تركيزهم على الأسلوب، إلا أن كلاً من الأسلوب والصياغة يلعبان دوراً فاصلاً في تقييم الأدب لأنه من الأساس نوع من أنواع الفن الذي يجب أن يؤثر في نفس القارئ ويأخذها من عالمها الروتيني إلى عالم “الرسم بالكلمات” كما قال القباني.
«نوميديا» هي رواية تعالج واقع مجتمعات ما بعد الاستعمار بأسلوب الرمزية التي التجأ إليها الكاتب في التعبير عن مقصده ألا وهو تمزق الوطن المتعب بين مختلف الانتماءات والجماعات والتي مثلها بالنساء الأربع التي لعبت كلاً منهن دوراً مركزياً أو فرعياً في الرواية وكان بطل القصة أو “مراد” هو الوطن. أما بالنسبة للنساء فكانت جوليا، العشيقة الفرنسية، ترمز لفرنسا أو المستعمر الإمبريالي، وخولة، الغائبة الحاضرة ترمز للانتماء العربي، و نضال ترمز لليسارية وللاتجاه اليساري في المغرب. أما الأخيرة فهي نوميديا الملكة الأمازيغية المنسية والغير قادرة على النطق والكلام أو بالأصح التي تم تسكيتها.
تلعب «نوميديا» دوراً مزدوجاً فمن جهة ترمز للشق الأمازيغي من تاريخ المغرب بصورة خاصة وتاريخ المغرب العربي بصورة عامة ويرجع هذا لاسمها الذي يعود في الحقيقة لاسم مملكة أمازيغية قديمة قامت في شمال أفريقيا، ومن جهة أخرى ترمز للخرافة أو الأسطورة في الرواية فنجد أن القارئ يتساءل في بعض أجزاء الرواية إذا ما كانت حقيقة أم مجرد أسطورة من اختراع البطل مراد ففي الفصل الثالث على سبيل المثال نجد أن مراد يصف آخر الأحداث التي مر بها بقوله: “وكان آخر عهدي بالحياة، أن انسحبت نوميديا من البركة” (ص. 293) ثم نجد حديث الرجال الذين أنقذوه ينافي ذلك، إذ قال أحدهم: “أظن أنه ممسوس، ربما سكنته جنية الوادي! ألا ترون أنه أدمن الوادي، وأنه يتكلم هناك بمفرده كما صرح بعضكم.. أضف إلى ذلك أنه صرع.. هناك وأنا أكاد أجزم أن جنية الوادي وراء ما يقع له.” (ص.296)
إن أهمية الأسطورة في هذه الرواية تكمن في كونها من أهم خصائص أدب ما بعد الاستعمار والتي تتمثل في عودة المثقف لثقافة وطنية ولو كانت متمثلة في أسطورة فوفقاً للكاتب فرتنتز فانون، الذي نشر في عام 1961 كتاباً بعنونا المعذبون عبر فيه عن نظرته النقدية الصارمة “نحو الاستعمار الأوروبي في تعاطف شديد مع الدول المستعمرة التي لم يكتف الأوروبيون… بتخريب حاضرها وإنما اتجهوا إلى ماضيها أيضاً وسعوا إلى هدمه أو تشويه بالقدر نفسه من الشراسة. ومن هنا لم يكن من المستغرب أن يسعى مثقفو تلك البلاد المستعمرة إلى ثقافتهم الوطنية لاستعادتها حتى ولو تضمن ذلك ربطها بمهاد عرقي أو أسطوري.” (البازغي، ص. 159-160) وفي الحقيقة نجد أن الكاتب قد ربط الأصل بالجانبين العرقي (الأمازيغي) والأسطوري (وجود نوميديا في حياة البطل).
بل قد أخذ الكاتب الرواية لبعد آخر قام فيه “بقلب التوجه الاستشراقي بحيث يصبح الأوروبي الذي كان يدرس الشرق موضوعاً للدرس” (ص. 160 بازغي) وهذا بالضبط ما حدث مع مراد الذي أخذ يكتشف جوليا أكثر فأكثر على مدار صفحات الكتاب ويتحدث عنها مع تقدم الكتاب أكثر من بدايته وخاصة عندما قام بالربط بينها وبين الرومي الذي كان يصطاد أهل أغرم، فيقول مراد: ” وقفت مأخوذاً بقلعة الرومي من فوق. كانت، هذه القلعة التي لا يدري أحد كيف ألصقت بالجبل. يبدو منظرها بشعاً من فوق، على الرغم من أن منظرها من تحت جميل إلى درجة تستثير الرهبة والخوف في قلب رائيها. ترى فيما تختلف جوليا عن بانيها، الذي كان يصيد الآدميين ببندقيته من حصنه الحصين هذا.. لا شيء، فقط ليثري مروياتهم الكبرى عن الشرق، جوليا أيضا – وإن اختلفت الأساليب مع روح العصر – صاحبتني باسم استكناه الشرق، لست أدري عدد طرائدها قبلي.. كل هذا لتثري حكايتهم الكبرى عن الشرق.” (ص.415)
ويستمر طارق في دعم منظور الاستغراب أو التوجه الإستشراقي المقلوب والذي وكما يقول حسن حنفي، مؤلف كتاب مقدمة في علم الاستغراب 1991م، معرفاً مهمة الاستغراب: “هـي فك عقدة النقص التاريخية في علاقة الأنا بالآخر، والقضاء على مركب العظمة لدى الآخر بتحويله من ذات دارس إلى ذات موضوع مدروس،” وقد تضمنت محاولة الكاتب في فك هذه العقدة بعكس الأدوار ليس فقط في تحويل الدارس إلى مدروس بل بعكس الأدوار الاعتيادية للشرق والغرب. فتبعاً لملاحظات الباحثة أليسون بلنيت فإن “كتّاب الرحلات في القرن التاسع عشر استخدموا في أغلب الأحيان الصور والاستعارات الجنسية التي تعزز المنزلة الذكورية الفاقعة للمستكشفين الأوائل. فهؤلاء الأخيرون هم الذين تمكنوا من “فتح” و”اختراق” البلدان الخطيرة المجهولة التي توزع خصوبتها بالتساوي بين الأرض والنساء. فالأرض هناك “عذراء وشرسة” والمستعمر ذكر فحل وعاشق مرغوب بحماسة ومروض لجموح النساء الأصليات.” (بزيغ، 2005) أما في رواية «نوميديا» فالشرق مذكر وفي كامل فحولته والغرب مؤنث وواقع في غرام الشرق فتقول جوليا معبرةً عن شغفها: ” كان حضارياً أكثر من أي أوروبي، وفحلا أكثر من أي شرقي أو إفريقي، أكثر من ذلك كان مراد سراباً، غيمة… كلما حاولت ضبط ملامحها تغيرت، كان ألف رجل في رجل واحد.” (ص. 283)
لكن لعلّ هذه النقطة هي ذاتها التي أضعفت الرواية أو بالأصح أضعفت الحبكة الرمزية لها، فاعتياد المتلقي أو المثقف العربي على دور العربي المضطهد أو السلبي هي التي جعلت من قلب الأدوار الذي يمثل مرحلة متقدمة من حركات ما بعد الاستعمار الثقافية، أو الاستغراب، لا يتجاوب بالضرورة مع ما يتوقعه القارئ العربي “فالنص ما هو إلا فعل (أداء) لغوي يكتسب معناه باعتماده على نظام الأعراف والتقاليد التي يدركها القارئ وتمكن منها مثلما تمكن منها المؤلف.” (البازغي ص. 209) وحتى يعالج الكاتب أو ربما الناشر هذه المشكلة، فقد أضاف على مجلد الرواية رمزية هذه الشخصيات النسائية بصريح العبارة: “نضال زميلته في الدراسة والعمل النضالي…جوليا المستعمرة… نوميديا الأمازيغية الخرساء،” حتى يبين للقارئ أن هنالك رمزية في الرواية لأن احتمال عدم استيعابه لهذه الرمزية واردٌ جداً.
الرمزية التي استخدمها طارق في حبكة الرواية هي “نوع من الاستعارة يتم فيها توسيع شيء أو مفهوم في كامل الرواية. وإن تم اختيار الرموز بدقة، فمن شأنها أن تشتمل على قوة عاطفية كبيرة لأنها تعمل على أكثر من مستوى واحد. ومع تطور القصة، يكتسب الرمز معاني إضافية.” (كريس، ص. 183) لكن هذه القوة العاطفية لا يمكنها أن تُوصل التأثير المطلوب إلا إذا كان للرمز معنى مقبول ومعتاد بالنسبة للمتلقي أو القارئ، بمعنى أن القارئ لن يتمكن من تأويل الاستعارة واستيعابها إلا عندما يتمكن من ربطها بصورة أو عاطفة مسبقة منسوجة في خلفيته الثقافية، وفي هذا الشأن يقول الفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو: “إن التأويل الاستعاري يتولد من التفاعل بين المؤول ونص استعاري، لكن نتيجة هذا التأويل لا تنفصل عن طبيعة النص، كما أنها لا تخرج عن الإطار العام الذي تسمح به المعارف الموسوعية لثقافة ما.” (خنصالي،2005، ص.82)
وما يزيد الطين بلة هو الإسهاب في ذكر تفاصيل علاقة مراد بجوليا ونضال وهو أمر قد يجده العديد من القراء غير مبرّر ولا غاية منه في مساندة حبكة الرواية وإثرائها أو بالأصح لعله كان أحد الأسباب التي ساهمت في ضعفها وضعف الرسالة التي يحاول الكاتب إرسالها للقارئ.
في الختام، الرواية تعكس العديد من الجوانب الجميلة والمميزة للمجتمع المغربي والتي ربما تكون أحد أهم وأبرز الأسباب التي قد تدفع بالقارئ للاستمرار بالقراءة والبحث عن المزيد عن التفاصيل عن هذا المجتمع المغربي ذي الأصول العديدة وكل ما يميزه عن غيره من مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. أعجبتني الرواية لكن بتحفظ.
المراجع:
سعيدة خنصالي (2015) أمبرتو إيكو: في نقد التأويل المضاعف، بيروت: منشورات الاختلاف
شوقي بزيع (2005) “الاستشراق جنسياً” . تذكير الأنا وتأنيث الآخر، جريدة الحياة، العدد 15407
نانسي كريس (2009) تقنيات كتابة الرواية، (ترجمة، زينة جابر إدريس) بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون
ميجان الرويلي، وسعد البازعي (2007) دليل الناقد الأدبي، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي
أحدث التعليقات