رواية «الطابق 99» لجنى فواز الحسن

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  الجائزة العالمية للرواية العربية  /  2015  /  رواية «الطابق 99» لجنى فواز الحسن

جنى فواز الحسن، هي روائية وصحفية لبنانية. تعمل في مجال الصحافة المكتوبة والترجمة منذ سنة 2009، كما نشرت نصوصاً أدبية وقصصاً قصيرة في عدة دوريات ثقافية. أصدرت روايتها الأولى «رغبات محرمة» سنة 2009 ونالت عنها جائزة سيمون حايك في البترون، وشمال لبنان. ورشحت روايتها «أنا وهي والأخريات» للقائمة القصيرة للبوكر العربية في دورتها السادسة.

رواية «الطابق 99» لجنى فواز الحسن والتي نشرتها منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف في سنة 2014 في طبعتها الأولى، والتي ترشحت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية سنة 2015، تتحدث عن الانتماء والوطن. عن وطن يحمله بطل القصة أو يحمل بقاياه على قدمه العرجاء وندبة وجهه وعن وطن يحمل البطل على أرضه ويوفر له الاستقرار والعيش الهنيء إن صح التعبير. قسّمت جنى الرواية إلى أربعة فصول بين اللحظة الحالية التي يعيشها الأبطال والماضي الذي ساهم في صنعهم وصنع هوياتهم وجروحهم في 264 صفحة بأسلوب سلس ومشوق يدعك تطلب المزيد ولا تكتفي من أسلوب الكاتبة وعالمها الأدبي المثير.

بين نيويورك ولبنان تدور أحداث الرواية التي تبدأها جنى بوصف اللحظات التي يعيشها بطل القصة مجد في نيويورك سنة 2000 في مكتبه العالي في طابق 99 وحديثه المستمر عن هيلدا التي سرعان ما تعود لوطنها لبنان، تاركة إياه وحده مع الذكريات، ذكريات قصف مخيم صبرا وشتيلا سنة 1982.

تعزز الكاتبة العلاقة الإنسانية والغرامية بين مجد وهيلدا قبل أن تدخل في تفاصيل الاختلاف بينهم، فعائلة هيلدا من حزب الكتائب الذي كان من الأطراف المساهمة في مجزرة صبرا وشتيلا والتي بدورها تسببت بعرج مجد وندبته ووفاة أمه الحامل، ولولا إعجابه بها الذي سبق معرفته بأصلها لما سمح لنفسه أن يغرم بها إذ يقول مجد في الفصل الثالث من الرواية:  “كنت أحاول أن أتوخى الحذر في كلامي معها، خصوصا بعدما عرفت أن أهلها من حزب الكتائب. ربما لو عرفت ذلك مسبقا، لما دعوتها إلى المقهى.” (ص. 164 )

تبدأ جنى روايتها بمقوله لجيمس بالدوين: “ربما ليس الوطن مكانا ولكن شرطاً لا يمكن إنكاره،” مخلفة وراء هذه الكلمات القليلة العديد من الأسئلة فلأي شيء يُشترط الوطن؟ ولأي غرض؟ هل يساهم في تعريفنا لأنفسنا أو في تقديم أنفسنا للآخرين؟

ولكن الجميل في روايتها هو أنها عرفت مجد على أنه إنسان عاشق قبل أن تعرفه على أنه فلسطيني، فهل يمحو العشق عنا جواز السفر؟ ربما، أو ربما هذا ما حاولت أن تصل إليه الكاتبة عن طريق روايتها وأن الإنسان عندما يعشق يتخلى عن انتمائه لأرض معينة وينتمي لشّخص الذي يحب بدلاً عنها، ففي أحد المحادثات بين هيلدا ومجد عن رغبتها في العودة للبنان حتى تعيد التواصل مع جذورها بعد أن أصبحت امرأة ناضجة، وذلك كي تمتحن اعتقاداتها ومبادئها إذا ما كانت حقيقة أو مجرد ورث ورثته من عائلتها، قالت:  “أعرف أنني أريد أن أذهب إلى هناك وأراهم وأسمعهم وأكلمهم. ليتك تفهم ذلك. أشعر بالخوف أحيانا، كتلك النبتة المبتورة، حين تحتاج إلى أرض تغرس نفسها فيها.”  فيجيبها مجد قائلا:”ألست أنا أرضك يا هيلدا؟” (ص. 168)

وكأنه قد ورث ذلك الإحساس بالانتماء لأنثى من والده الذي ظل يقول لابنه أن والدته في فلسطين تنتظرهما، وقبل أن يتوفى أمّنه عليها. إذن قد يصبح المعشوق هو الوطن وقد يصبح الوطن هو المعشوق، فقد كان مجد لهيلدا هو الوطن إذ عادت للانتماء إليه في آخر الرواية أو هكذا يخيل إلى القارئ، بينما أصبحت فلسطين هي حبيبة والد مجد الذي ظل مقتنعا أن زوجته وحبيبته في فلسطين أو ربما هي فلسطين عند قوله: “أمك هناك، زي ما بقلك، أمك هناك” (ص. 96)

وكما قال نزار قباني في قصيدة لا غالب إلا الحب التي نشرت في دوان يحمل الاسم ذاته سنة 1989:

“برغم ما يثور في عيني من زوابع

ورغم ما ينام في عينيك من أحزان

برغم عصر,

يطلق النار على الجمال، حيث كان ..

والعدل، حيث كان ..

والرأي حيث كان

أقول: لا غالب إلا الحب

أقول: لا غالب إلا الحب

للمرة المليون ..

لا غالب إلا الحب

فلا يغطينا من اليباس،

إلا شجر الحنان ..”

أجل، لا غالب إلا الحب وهذا ما قاله مجد بالضبط: “في قلبي، حيث توغلت [هيلدا]، لم تكن هيلدا الفتاة المسيحية، وكم كان من الحماقة اختصارها بذلك، كما في الملحمة. كانت هيلدا المرأة التي لا أخاف النظر إليها، والبئر الذي تحمل كل الاعترافات، والابتسامة التي أعطتني أملا بالحياة. كانت كل الديانات، في صفائها وشفافيتها، والدين الوحيد الصادق الذي لا يراوغ ولا يشعرك أنك في اختبار.” (ص.93 )

كأن الحب هو السلاح الذي استخدمه كل من مجد وهيلدا حتى يشفيا من عقد الماضي، لكن ومع هذا الحب الكبير لم يتمكن مجد من أن يتجاوز وطنيته وانتمائه فأبى أن يعالج ندبته ورجله حتى يحمل على جسده آثار انتمائه لهذا الوطن الجريح مثله، فكأن عطبه ذاك كان هو جواز سفره الذي لم يكن يستطيع الحصول عليه حتى، هو الفلسطيني الموطن مع وقف التنفيذ فيقول: “أن تكون فلسطينيا خصوصا في زمن الحروب، هو أن تنكر على نفسك حقك في الحياة، وأن تلبس الأسى ليصبح جلدك، وإلا فقدت وطنيتك.”(ص. 72) ويقول أيضاً: “لولا أني لم أحتفظ بهذه الندبة في وجهي، لكنت نسيت ربما الكثير من الإجحاف الذي يلحق بأرضي كل يوم. لو لم أتمسك بعاهة رجلي، لنسيت أن هنالك عدواً يتربص بفلسطينيين آخرين، يعذبهم ويأسرهم ويجبرهم على العمل تحت إمرته، والخضوع لاستبداده كل يوم.” (ص. 173)

وفي حين أن قصة حب مجد وهيلدا هي المحور الأساسي في الرواية نجد أن هنالك العديد من الشخصيات الثانوية التي ترمي بثقلها وثقل مشاكلها على مر الرواية، فها هي ماريان في انتظار أخبار عن زوج غائب منذ مشاركته الجيش الأمريكي في أحداث غزو الكويت فلا تعلم إذا كان ميتا أو حيا وها هي إيفا التي عانت من التعدي الجنسي والاستغلال وأخيراً الخيانة من قبل محسن الذي بدوره أصبح مايك عندما وصل لأمريكا وغيرهم من الشخصيات التي تعاني هي الأخرى فكأنه كان هدفاً لجنى أن تعرض معاناة الواقع الإنساني مهما كان أصله، فالمسكين والمحتاج والفقير يوجد في كل مجتمع على اختلاف لونه ولغته وعقيدته.

وحتى توصل الصورة كاملة للقارئ تروي جنى فواز الحسن الرواية على لسان مجد في أولها وتنتقل في وسطها لروايتها على لسان هيلدا، وتختم فصلها الرابع والأخير بروايتها على لسان هيلدا فقط، فكأنها تعطيها مساحة للدفاع عن نفسها إن صح التعبير، هي التي لم نعرفها طيلة الرواية إلا من وصف مجد لها، وكأنها أعطتها الحق في أن تبرر موقفها وسبب رحيلها الذي يعتب عليه مجد طيلة الرواية.

رواية «الطابق 99» رحلة بين الطرف والطرف الآخر والنزاعات والحروب التي تتوسطهما، هذا الجيل الذي لم يشارك في أي حرب ولم يرفع أي شعار غير أنه وجد نفسه يحمل عاهات حروب لم يخضها ويحمل شعارات لم يؤمن بها. ووسط هذه الدوامة تتجرد كل الشعارات والأطياف أمام مجد الرجل وهيلدا الأنثى فكأنهما عادا للطبيعة الأولى آدم وحواء وشغف وحب لا ينتهي، هذه هي رواية جنى فواز الحسن في سطور. رواية رائعة تستحق المطالعة .

أحدث التعليقات