رواية «أولاد الغيتو، اسمي آدم» لإلياس خوري

إلياس خوري هو روائي وناقد وكاتب مسرحي وأستاذ جامعي لبناني. شغل منصب رئيس تحرير “مجلة الدراسات الفلسطينية” وسبق أن شغل منصب رئيس تحرير الملحق الثقافي لصحيفة “النهار” منذ عام 1992 إلى عام 2009. كتب العديد من الروايات، وترجم العديد منها إلى أكثر من عشر لغات، كما فاز بالعديد من الجوائز الأدبية والثقافية منها جائزة اليونسكو للثقافة العربية لعام 2011 تقديراً للجهود التي بذلها في التّعريف بالثقافة العربية للعالم ونشرها. حققت روايته «باب الشمس» التي نشرتها دار الآداب في عام 1998 ببيروت شهرة واسعة، ووصلت روايته «أولاد الغيتو، اسمي آدم» التي نشرتها الدار ذاتها في عام 2016 للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لعام 2017. (إلياس خوري)

تطرح رواية «أولاد الغيتو، اسمي آدم» منظوراً مغايراً للمنظور السياسي أو العقائدي الذي تعوّدنا اعتماده في أثناء الحديث عن النكبة أو الانتفاضة الفلسطينية. منظور يتطرق للحياة اليومية بكل تفاصيلها وسلبيّاتها وإيجابياتها بعيداً عن التقديس والشعارات الكبيرة، فقد آن الأوان للنظر إلى الشخص الفلسطيني على أنه إنسان بكل ما يخالجه من تناقضات، وليس رمزاً أو معنى للقضية الفلسطينية. يشرح لنا الكاتب شخصية هذا الفلسطيني، ويكشف عن طبقاتها المتعددة والمعقدة من خلال بطل القصة آدم دنون الذي يحاول أن يسجل جزءاً من حياته لا بغرض النشر، وإنما بغرض التنفيس عن غضبه، فيقول: “لا أتذكر أنني قرأت شيئاً عن علاقة الغضب بالكتابة، لكن قراري بأن أكتب قصتي جاء بسبب الغضب، غضب وحشي استحوذ على كياني.” (ص. 24)

يُفسّر غضب آدم اللهجة الساخرة التي استخدمها إلياس في التعبير عن آراء بطله الرئيسي التي يوجهُها مباشرةً للقارئ تعليقاً على أحداث الرواية، إذ اعتمد الكاتب على فلسفة كتابة فريدة “تتجلى بوجود نصين؛ نص واعٍ ونص غير واعٍ، بحيث أن النص الواعي هو القيم الجماليّة كما أرادها الكاتب، وأما النص غير الواعي هو الأداء الروائي نفسه وحياة أبطال الرواية.” (ندوة مع الكاتب والروائي إلياس خوري، 2016) وكأن القارئ لا يقرأ رواية واحدة، وإنما روايتان اثنتان متداخلتان ومختلفتان، بالإضافة إلى رواية ثالثة عن وضّاح اليمن التي بعنوان «صندوق الحب» والتي يمكن قراءتها على أنها رواية مستقلة عن بقية أجزاء الرواية. إلا أن الغرض من إدراجها في مقدمة الرواية غرضٌ رمزي مدفون بين سطور القصة.

حاول الكاتب أن يتفادى الرمزية المباشرة التي “تحول الرواية إلى رمز” والتي بوجهة نظر الراوي/آدم هو المنزلق الذي وقع فيه الروائي غسان الكنفي في أثناء كتابته رواية «رجال في الشمس» والتي تروي حكاية ثلاثة فلسطينيين دخلوا إلى خزان ماء في شاحنة سائق بغرض الهروب من البصرة إلى الكويت، فماتوا جميعهم في جحيم الخزان قبل عبور الحدود العراقية الكويتية، ولم يفعلوا شيئاً. “ما جعل الرواية تصرخ في أذني السائق تلك اللماذا شبه المختنقة””، وعندما حوّل المخرج توفيق صالح الرواية إلى فلم «المخدوعون»، “غيّر الرواية، فبدلاً من أن تسأل الرواية الفلسطينيين الثلاثة لماذا لم يقرعوا جدار الخزان، رأينا أيديهم تقرع جدار الفيلم والخزان معاً.” ويشير آدم إلى رمزية الرواية والفيلم على حد سواء بقوله: “في الرواية والفيلم تساوى القرع مع عدمه، فرجال نقطة الحدود الكويتية ما كان في مقدورهم أن يسمعوا وهم متحصنون في غرفهم… وبذا، يصير السؤال الحقيقي ليس عن خرس الفلسطينيين، بل صمم العالم عن سماع صراخهم”. لذا قرر آدم أن مدخله لكتابة روايته سوف يكون مختلفاً، فلن يشير إلى فلسطين ولو بكلمة واحدة، وهذا سينقذه “من المنزلق الذي حول رواية كنفاني إلى رمز، علـ[ى القارئ] أن [يـ]فك عناصره كي [يـ]صل إلى الرسالة التي يريدها الكاتب.” (ص. 31)

توجد العديد من القراءات التي يمكن من خلالها استخلاص رمزية قصة وضاح اليمن وعلاقتها بأحداث الرواية الباقية، إلا أنه يمكن التركيز على جانبين اثنين، وهما: كون وضّاح اليمن ضحية الضحية، وبحثه عن خيال المرأة التي تركها خوفاً وهرباً من مرضها.

ضحية الضحية

نجحت القضية الصهيونية في كسب تعاطف العالم، وخاصة خلال سنواتها الأولى؛ نظراً لاستخدامها للانتهاكات والاضطهادات التي عاشها اليهود “الضحية”، وكأن هذه المعاناة بررت لهم أن يكونوا جلادين هم أنفسهم، ويجعلوا من الفلسطينيين “يهوداً ليهود إسرائيل.” فـ”خرس الفلسطيني هو شرط ما يمكن أن نُطلق عليه اسم “يقظة ضميرية” إسرائيلية، أي أن المعاناة في الجوهر هي معاناة الوعي اليهودي ولا علاقة لها بالضحية. هكذا يأخذنا الأدب إلى معادلة الجلّاد الذي يمتلك وعي الضحية أو الضحية التي استولت على ممارسات الجلّاد!” (ص.261) ولعل وجه التشابه بين الفلسطيني ضحية الضحية ووضاح اليمن يكمن في كونه هو نفسه ضحية لحبيبته روضة “الضحية” والتي “تزوجت [قسراً] من رجل كهل، يبدو أنه أخفى حقيقة كونه مجذوماً عن أهلها، وأن الزوج مات بعد زواجه بأيام قليلة، لكن روضة أصيبت بالمرض اللعين، فرماها أهلها في وادي المجذومين، حيث يعيش المرضى عزلة تامة عن الناس، لا يتلقّون سوى فتات الطعام الذي يجود به المحسنون، ولا ينتظرون سوى موتهم وسط عذابات الجسد وآلام الروح.” (ص. 49) إن وجه التشابه هنا لا يضع كلاً من روضة والإسرائيليين في الكفة نفسها، وإنما يضع وضّاح اليمن والفلسطينيين في الكفة ذاتها نظراً لوقوعهما ضحايا لظروف لم يكن لهم يدٌ فيها، وإنما هي حال الحياة التي قادت كليهما لمصائر متشابهة.

وتستمر قصة وضّاح اليمن الذي لم يمنعه الجذم من البحث عن روضة، وذهب إليها “بروحيّة الفارس كي يموت معها، هذا كان قراره: أن ينتصر بحبه على الموت. لكنه عندما رآها، ورأى كيف انطفأت العينان الجميلتان، وتقشر الجلد، وتهدل الحاجبان، لبسه الخوف وتلاشت رجولته، وشعر بالحاجة إلى الفرار.” و “هرب من هناك ركضاً، رمى حبه خوفاً من الموت، وفرّ كي ينقذ حياته من الحب.” (ص. 50-51) لتنتهي قصته مع روضة الحقيقة، وتبدأ مع خيالها.

البحث عن خيال روضة

بعد أن أصابه جنون نهاية الحب، حاول وضّاح علاج جنونه بالحج والصلاة، وفي أثناء حجه قابل أم المؤمنين (زوجة الوليد بن عبد الملك) التي كانت تنوي غوايته حتى يكتب فيها شعراً كما تغزل الشعراء بأخت زوجها فاطمة بنت عبد الملك (زوجة عمر بن عبد العزيز)، إلا أنه أطرق عنها فأمسكته من زنده، وصرخت “أنا روض”. فمشى ورائها حتى وصل حيث تقيم، “ورأى الجواري الجميلات يحطن بها، [فـ]أيقن أن الله قبل دعاءه، وأنه يلتقي حبيبته من جديد بعدما جمعهما الموت.” (ص. 57) إذن، عاد وضاح لحضن روضة التي تركها في وادي المجذومين وهرب. عاد إلى خيالها بعدما ذاق بُعدها.

حال وضاح اليمن يشبه لدرجة كبيرة حال أهل الغيتو الذين لم يكن أكثرهم من غيتو اللدّ، ولكن من مناطق وقرى أخرى، إلا أنهم بعد أن جربوا البعد للمرة الأولى لم يتحملوا البعد للمرة الثانية على الرغم من أن الجنود الإسرائيليين كانوا يجبرونهم على الرحيل والمغادرة.

في الختام، تتمتع رواية إلياس خوري بالرمزية والعمق، بالإضافة إلى توظيفه لأسلوب كتابي مبدع وجديد؛ مما يجعل عمله من الأعمال البارزة التي تستحق القراءة، ويجدر بالذكر تمتع الكاتب بلغة قوية وسلسة.

المراجع:

  1. إلياس خوري، موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية
  2. ندوة مع الكاتب والروائي إلياس

أحدث التعليقات