الصفحة الرئيسية / مراجعات / مُختارات / رواية «سمراويت» لحجي جابر
حجي جابر هو صحفي وروائي أريتيري ولد في مدينة مصوع في سنة 1976. حصل على بكالوريوس في علوم الاتصال وعمل في الصحافة السعودية لعدة سنوات قبل التحاقه بالتلفزيون الألماني “دويتشه فيلله” في السعودية. يعمل حالياً بالجزيرة كصحفي في غرفة الأخبار. له عدة مؤلفات روائية نشرها المركز الثقافي العربي ببيروت والمغرب منها «سمراويت» التي نشرت في سنة 2012، و«مرسى فاطمة» التي نشرت في سنة 2013، و«لعبة المغزل» التي نشرت في 2015. وقد حازت رواية «سمراويت» على جائزة الشارقة للإبداع العربي في سنة 2012.
في هذا العمل الإبداعي الذي لا تتعدى صفحاته المئتي صفحة المسمى بـ«سمراويت»، ينقل لنا حجي جابر حكاية ليست استثنائية بقدر كونها مثيرة للاهتمام وذلك تبعاً لندرة الأعمال الأدبية العربية التي تتحدث عن أرتيريا أو بالأصح عن المثقفين ثقافة عربية فيها. القصة تجسد دور المتغرب الذي يعود إلى وطنه فيشعر أنه غريب أيضاً بالرغم من توقعاته أنه في “بلده” أو بالأصح في ما يطلق عليه ذلك تبعاً لجواز سفره. إذن الوطن والوطن الآخر هو موضوع هذه الرواية بالإضافة إلى العديد من التفاصيل التي تثير الاهتمام بخصوص الجالية الإرتيرية في السعودية وفي الرياض على وجه التحديد.
إن تجربة بطل القصة “عمر” ليست بالوحيدة أو الفريدة من نوعها فأغلب العرب أو المسلمين المقيمين في الخليج عاشوا تجارب مشابهة ولعل من أبرز الأعمال التي قد قرأتها من قبل والتي تشبه إلى حد كبير رواية «سمراويت» رواية الكاتب الفلسطيني معتز قطينة “الجنسية” مع بعض الاختلافات طبعاً التي لعلّ من أبرزها الحضور الطاغي لامرأة في رواية «سمراويت» في حين أن رواية معتز قد خلت من أي ظهور نسائي ذي قيمة، أما الاختلاف الآخر فهو حبكة الرواية فبينما تظهر لنا حبكة رواية «الجنسية» من صفحاتها الأولى ولعلها هي السبب الرئيسي الذي يدفع القارئ لمتابعة القراءة حتى يعرف مصير البطل الحائر في اتخاذ القرار بين دخول القدس والعيش فيها ما تبقى من عمره أو العودة للسعودية حراً طليقاً من أي قيد، تسير صفحات «سمراويت» خالية من أي هدف واضح أو دافع عملي يدفع القارئ للاستمرار في المطالعة إلا حب الاطلاع المرتبط بندرة الأعمال التي تتحدث عن الجالية الأريتيرية.
الرواية تبحر بالقارئ في أجواء أريتيرية من الدرجة الأولى بما في ذلك الأطعمة والفنون وعادات وملامح أريتيريا في حين أن هذه الرحلة يتخللها السؤال الصعب: “إلى أين أنتمي وماذا قدم لي هذا الوطن الذي يفترض أن أنتمي إليه؟” سؤال تثيره في النفس تفاصيل “بلده” الذي يجد نفسه غريباً عليه والأغرب أنه لا يجد سبباً مقنعاً يبرر هذا الانتماء اليوتوبي. إن يتيوبية هذا الانتماء تعود للمدينة المثالية الأفلاطونية وهي ذلك المكان الخيالي القصي جداً “كالوطن” كما وصف الكاتب الوطن في عبارة كان يشير فيها إلى ابن جيرانه السوداني في جدة الذي قرر البقاء في السودان والبقاء في ساحة القتال بالعبارة: ” كنت أرى فيه ]سعيد[ فرصة نادرة لفهم هذا الشغف بوطن لم تكن كل الظروف المحيطة تشي بإمكانية ولادته، كيف لشاب في مقتبل الوعي أن يكون مؤمناً بهذا الوطن/الخيال إلى هذا الحد من العمق والتصميم.” (ص. 33)
في حين أن التردد الحقيقي الذي يظهر في عدة مواضع من الرواية هو بشان هذا السبب الذي قد يجعل المرء يقدم هذه التضحيات بدون مقابل، بل في أحيان كثيرة يكون المقابل إهانة وسوء تقدير كما ذكر الكاتب في العبارة على لسان صديقه محمود: “من المهم أن نناقش دور القنصلية في خدمة الإرتيريين، وأن نقارن ذلك بما تقوم به قنصليات الدول الأخرى ولتكن الدول أفريقية حتى لا يأتي بمن يتحجج بفارق الإمكانات. دعونا مثلاً نرى إلى أي مدى يثق الإرتيريون بها كمرجع يحتمون به في حال تعرضهم لأذى على الأراضي السعودية، ليكن هذا استطلاعاً للرأي.” (ص.68) فإن كانت القنصلية تمثل الوطن حقاً وتجسد رائحته، فلماذا هذا الشعور باليتم وبالشتات وخاصة فيها؟
وتزداد صورة اليوتيوبية لهذا الوطن بالاضمحلال عندما ذهب عمر لتجديد جواز سفره في القنصلية ليتفاجأ بضريبة جديدة أو كما أطلق عليها الموظف “حق الورق” وهي “اثنين في المية عن كل سنة وراح تدفع لأسر الشهداء وراح تدفع لمرضى الكلى وراح تدفع ..” (ص. 136) إذن ها هو الوطن يمارس وطنيته على عمر أخيراً لكن لا يمارسها إلا ليأخذ منه أكثر وكما عبر محمود صديق عمر عن الموضوع: “يا أخي رأيك ووجودك ما له داعي أصلاً باستثناء جيبك، جيبك وبس.” (ص. 137) إذن ها هو الوطن عندما اعترف بوجوده كمواطن أريتيري لم يعترف بكيانه الوجودي وبشوقه للانتماء وإنما بما سيستفيد منه، وكأنه زوجة طماعة لا تعطي بقدر ما تأخذ وبقدر ما أخذت ترغب بالمزيد.
ولعل جدلية الوطن الكبيرة هي أن الوطن يمثله الأشخاص الذين يطلق عليهم “أريتيريين” لذا فهو لا يتعامل مع قطعة أرض أو خيال أو حلم وإنما مع مجموعة من البشر على اختلاف طباعها واهتماماتها وأولوياتها والمشكلة تقع عندما لا يكون الشخص جزءاً من هذه الاهتمامات كما حدث للبطل عند تقديمه للمنحة المخصصة للإريتريين من البنك الإسلامي في الرياض والتي لم يحصل عليها لأنه “ليس أحداً من جماعة” المسؤول عن المنح ويصف البطل معاناته بالتفصيل في العبارة: “طوال الليل كنت أسترجع كل ما عانيته، تلوح لي صور إرتيريين كان بإمكانهم إنهاء تلك المعاناة لكنهم لم يفعلوا لمجرد أني خارج حساباتهم المنطقية والقومية.” (ص.91)
تتألق الرواية بطرحها للعديد من وجهات النظر من أولئك الذين قدموا نفوسهم فداءً لتحرير الوطن واستقلاله إلى اليسار المعارض وغيرها من وجهات النظر، ولعلّ من أكثر العبارات التي كان لها معنى ومغزى هي عبارة سعيد الذي فقد ذراعه فداءً لتحقيق الاستقلال: “الفرق بين رؤيتي وما تنادي به المعارضة في معظمها هو أني مع الإصلاح من الداخل وليس مع إسقاط النظام، لا أعتقد أن إريتريا ستكون أفضل مع من قضوا عمراً في الغرب يقتاتون على بقايا موائد.” (ص. 99)
ويظهر تمكن الكاتب من الكتابة الأدبية وإيصال جمالها من خلال عدة مقاطع في الرواية التي يتحدث فيها عن سمراويت التي لا يكتب عنها كثيراً بقدر ما يكتب عن أسمرا أو عن طقوسها الجميلة في الحياة والتي من أبرزها الجزء الذي خصصه للكتابة عن القهوة ومن أجمل ما قال فيه: “تختصر الجبنة] القهوة[ ملامح الطيبين، تمدنا بأوصافهم، فهي مثلهم سمراء دافئة، وهي مثلهم في القرب والألفة والحميمية، وهي مثلهم باقية حين يذهب كل شيء.” (ص. 147)
إذن الرواية تصف تلك الازدواجية التي يعيشها العديد من المغتربين عن أوطانهم بين الوطن الخيال والثقافة والطقوس الصغيرة الجميلة وبين الأطماع والاستغلال والإقصاء الذي يمارسه نفس الوطن أو نفس الأشخاص الذين يمثلون الوطن، وبين الجهتين يبقى المغترب حائراً بحبه وكرهه وشوقه وحبه للرحيل الكبير لعله يجد أرضاً تقبله كما هو وربما حتى تحبه.
رواية جميلة أنصح بقراءتها وخاصة للمهتمين بالمجتمع السعودي أو الاريتيري. أسلوبها جميل والكاتب متمكن من اللغة ومن التصوير الجمالي والبلاغي.
أحدث التعليقات