الحكمة (44): «غرفة الرئيس» لريكاردو روميرو

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  / الحكمة (44): «غرفة الرئيس» لريكاردو روميرو

أقف اليوم في محطتي الرابعة والأربعين: الأرجنتين. أين يبدأ الوعي وأين ينتهي؟ هل يصيبنا الوعي دفعة واحدة أم تراه يتطور تدريجياً بمرور التجربة؟ ليست هذه سوى أسئلة قليلة من تلك التي عصفت بذهني بعد قراءة رواية «غرفة الرئيس» لريكاردو روميرو، التي نشرت طبعتها العربية الأولى منشورات تكوين في عام 2022 في الكويت، ونقلها إلى العربية محمد الفولي.

تتشابك خيوط الواقع والوعي في رواية «غرفة الرئيس» فتخلق عالماً موازياً يكاد يشابه الحقيقة في تفاصيله، ولكنه ليس كذلك. هو “عالم النفوس الواعية” إن صح التعبير، أي عالم يجمع بين سكّانه الوعي وليس مساحة العيش. ولعل أكبر دليل على ذلك كيفية تعامل الراوي وعائلته مع اختفاء الأخ الصغير لمدة أيام عن هذا العالم، وقبولهم هذا الاختفاء، وتأكيده أنها ليست المرة الأولى. فثمة “مرات يصاب فيها بالحمى، وفي مرات أخرى يختفي.” (ص. 69) فإن كان هذا العالم الذي يصفه الكاتب عالماً حقيقياً، لما مرت حادثة الاختفاء بسهولة وقبول، وإنما كانت مصيبة وفاجعة. ولكن غياب الأطفال عن الوعي، وخاصة وعي البالغين، ليس بالأمر المستهجن، بل هو المتوقع والعادي جداً.

في هذا العالم، توجد في كل بيت غرفة مخصصة للرئيس. فقبل “منع الأقبية بوقت طويل، بدأت غرف الرئيس تبنى. إنها موجودة في كل البيوت؛ أو على الأقل في كل البيوت كبيتنا. إنها ليست موجودة في العمارات الواقعة في وسط المدينة. تخسر هذه العمارات امتيازات غرفة الرئيس لأنها ليست موجودة فيها.” (ص. 21) يسترسل الراوي في الحديث عن الأقبية وسبب منعها، فيقول: “تخلو كل بيوت الحي من الأقبية. إنها ممنوعة منذ حقبة جدي. يقولون إن الأقبية شهدت أموراً فضيعة فيما سبق، لهذا تقرر ألا يبنى المزيد منها.” (ص. 17) تقودني كل الدلالات ورمزية الأقبية إلى الربط بينها وبين تدين المجتمعات والذي ارتبط في الغرب خاصةً بالفظائع المرتكبة سابقاً باسم الكنيسة، قبل التمدن والحضارة، وهو ما يرمز إليه الكاتب بـ”العمارات الواقعة في وسط المدينة” التي تخلو بطبيعة الحال من بيت الرئيس. إذن، فإن غرفة الرئيس هي غرفة “الإله” في صورته التقليدية. الإله الذي قد يتخذ أشكالاً مختلفة عند عائلات مختلفة. فلم “يكن الرئيس دوماً هو الرئيس. هناك آخرون قبله، وبعده سيأتي واحد آخر. في بعض البيوت، يضع الناس صوراً صغيرة للرؤساء الأموات في غرفة الرئيس.” (ص. 67) كما قد يكون في هذا الوصف إشارة إلى تغير الإله، والصورة التي نراها به.

ولكن هل يزور الرئيس هذه الغرفة حقاً؟ أجل، على ما يبدو. فالراوي المراهق يشير إلى زميل له في المدرسة، زاره الرئيس، فأصبح “يفكر في شيء واحد فقط: في الرئيس. ثمة قلق في وجهه، وكأنه سيصبح فجأة وجهاً بالغاً، وهذا فقط لأنه يفكر في الرئيس كثيراً … أكثر بكثير منا.” (ص. 24) كانت الزيارة مكلفة إذن، فقد كلفته جرعة مكثفة من الوعي الدقيق بالحياة والأشياء، ودفعته إلى البلوغ دفعة واحدة.

في هذا المثال بالذات، قد يرمز الرئيس إلى حضور الوعي بمطلقه، وليس الإله، وأن أولئك الذين يزورهم الرئيس، يزورهم الوعي الكلي بالحياة والذات، فما يعود بإمكانهم العودة إلى سابق عهدهم. ولكن ألا ينتج عن الصلة بالإله تجلي الوعي المطلق؟ إن أغلب الممارسات الدينية ومحاولات التواصل والاتصال بالقوة الخارقة المحركة للكون، سواء كانت رباً أو الله أو الإله، في جوهرها رغبة في زيادة الوعي وفهم الحياة وأنفسنا.

تتقاطع التفسيرات والتحليلات كثيراً في صفحات هذه الرواية، وكلما توقع القارئ فهمها، تحدته في فهمهم، وفرضت عليه إعادة التفكير والتحليل، وهو بصراحة المتوقع حين الحديث عن موضوع ذو عمق وتعقيد. فعالم الرواية ليس عالم محسوس ملموس يسهل وصفه واستيعابه، وإنما هو عالم الوعي بجميع ملابساته الغامضة والمتضمنة. ففي تعبير صادق وصادم عن هذا الوعي بالذات والآخرين، يقول الراوي حين إصابته بالحمى: “أشعر بالعرق البارد وتصلب جلدي. أُلف جسدي بأحد أغطية السرير وأقول في نفسي إنني لن أفكر في جدران الجيرة، لكنني بمجرد قولي هذا الأمر، أحفز هذه الفكرة. لا ينبغي أن يتلامس بيت مع بيت آخر؛ على الأقل طوال الوقت. هل العيش هكذا ممكن؟ يمكنني أحياناً أن أسمع وأنا في غرفتي ضوضاء الجيران. ما من شيء غريب ومرعب أكثر من هذا. أفكر وأنا تحت أثر الحمى: لا ينبغي أن تتلامس البيوت طوال الوقت. لا أعرف ما هو شكل البيت الذي نعيش فيه. لا أعرف ما هو شكل جسدي الذي يلامس دائماً شيئاً ما. أفكر في هذا وأرتعش.” (ص. 53)

يذكرني هذا الوصف بحالة مماثلة كانت تصيبني في فترة المراهقة، وهي فكرة أن وعيي الشخصي سيكون دائماً محدوداً بجسدي البشري، ولن يتخطاه. فلن أستطيع أبداً أن أدرك تماماً شعور أو تجربة شخص آخر مهما حاولت. كانت هذه الفكرة تثير رعبي. لست أذكر تماماً السبب وراء هذا الرعب، ولكن ربّما كان رغبة الخوض في تجربة تتخطى الذات وحدودها، وهو ما قدمته لي القراءة، وخاصة الكتب الفلسفية والنفسية، والحمد لله.

إذن بالفعل، نحن نتدرج في وعينا بالأشياء والحياة وأنفسنا أثناء فترة المراهقة، وربّما لهذا نثور ونعترض ونشاغب. ليس لأننا على خلاف مع والدينا تحديداً، وإنما لصراعنا مع استيعاب حقيقة هذه الحياة وتفاصيلها، والوعي بها.

الحكمة من الكتاب:

سواء كان الرئيس رمزاً للإله، ودخول غرفته رمزاً للحظة تجليه في نفوسنا، أو كان الرئيس هو الوعي المفرط بالحياة والأشياء من حولنا وفي أنفسنا، تصف رواية «غرفة الرئيس» رحلة الراوي المراهق، وضياعه في تفاصيل اكتشاف الحياة والوعي بتفاصيلها. وبذلك، هي رسالة للمربين والوالدين. رسالة تذكرنا بصراعنا الشخصي حين بدأنا نعي بهذا الوجود، الخارجي والداخلي. صراع ربّما لا نزال نعايشه إلى الآن حينما نتذكر الموت أو نعايشه في وفاة قريب لنا أو حبيب. صراع يؤكد على فناء هذا الوجود وهشاشته، ودهشتنا المستمرة به رغم ذلك.

لذا فإن الحكمة من هذه الرواية يمكن تلخيصها في كلمة واحدة، وهي اللطف. اللطف تجاه أبنائنا المراهقين، وتجاه أنفسنا وغيرنا، فإن كان الوعي وحده بهذه الحياة صادماً، فما بالك بعيشها!

اقتباسات من الكتاب:

ليست كل الأمور قابلة للتفكير. لماذا يجب أن تكون كل الأمور أصلاً قابلة للتفكير؟” (ص. 9)

“هل ترتفع الحمى، فأفكر في أشياء تصيبني بالحزن، أم أنني حين أفكر في أشياء تصيبني بالحزن ترتفع الحمى؟” (ص. 53)

“لا أعرف ما هو شكل جسدي الذي يلامس دائماً شيئاً ما. أفكر في هذا وأرتعش.” (ص. 53)

الختام:

أسئلة فلسفية كثيرة عديدة ومتعددة تطرحها رواية «غرفة الرئيس». أسئلة قد يفوق عددها عدد صفحات الرواية القليلة. أسئلة عن الوعي. عن هذه المادة غريبة الخواص ومختلفة الملامح باختلاف صاحبها ومجرّبها. أسئلة عن كيفية إصابتنا بهذه المادة العجيبة. فلطالما توقعت أننا نصاب بالوعي دفعة واحدة، فيتجلى لنا الوجود في جميع تفاصيله، بينما علّمتني الرواية أننا نعي بالتدريج. خطوة تلي الأخرى نقترب أكثر فأكثر من غرفة الرئيس، إلى أن نلتقيه، ونبلغ سن الرشد!

أحدث التعليقات