جبور الدويهي، أديب لبناني وأستاذ أدب فرنسي في الجامعة اللبنانية. حائز على إجازة في الأدب الفرنسي من كلية التربية في بيروت وعلى دكتوراه في الأدب المقارن من جامعة باريس الثالثة (السوربون الجديدة). ترشحت روايتين من أعماله للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية: «مطر حزيران» سنة 2008 و «شريد المنازل» سنة 2012، كما ترشحت روايته «حيّ الأمريكان» للقائمة الطويلة سنة 2015.
رواية «حيّ الأمريكان» تعكس حياة طبقات مختلفة من المجتمع اللبناني وتطوره ومجريات الحياة فيه منذ ثلاثة أجيال مضت، وعلى الرغم من أن الرواية لم تعكس سوى الطائفة المسلمة السنية إلا أنها مثلت العديد من مجتمعات الشرق الأوسط وصراع المرجعية الدينية بين الطرق التقليدية والطرق المحدثة والمتطرفة في العديد من الأحيان. نشرت الرواية دار الساقي في طبعتها الأولى سنة 2014 في بيروت، لبنان.
قسم جبور الرواية ذات الـ160 صفحة إلى ستة أجزاء سخرها للتعرف على الشخصيات الأساسية في القصة، فنجد أن الجزء الأول يعرف لنا عبد الرحمن بكري أو “المشنوق” ومنه يستدرج الحديث عن انتصار التي سترافق بقية الشخصيات في رحلاتهم. أما الجزء الثاني فقد خصصه للحديث عن عبد الكريم عزام والفصل الثالث عن بلال محسن زوج انتصار. أما بالنسبة للفصل الرابع فقد تحدث فيه عن فاليريا معشوقة عبد الكريم. وبالنسبة للفصلين الأخيرين فلقد خصصهما الراوي للحديث عن إسماعيل ابن انتصار وعن رحلته للانضمام لتنظيم بلاد الرافدين.
لقد نجح جبور في طرح الرواية في صيغة جديدة عبر التعمق في أحد شخصياتها في كل جزء منها فكأنها مجموعة من القصص القصيرة المجتمعة تحت سقف «حيّ الأمريكان». وتتمتع الرواية بأسلوب سلس ولغة غنية. لكنها وللأسف تخلو من المونولوج (الحوار الداخلي) الذي كان من شأنه أن يجعل القارئ يقترب أكثر من الأبطال ويشعر بمعاناتهم ومشاكلهم ومشاعرهم.
تكمن قوة رواية «حي الأمريكان» في تمكن جبور الدويهي من عرض العديد من القضايا التي تتكرر في المجتمعات العربية من دون أن يشير لهذه القضايا بصورة مباشرة الذي من شأنه أن يفسد الجانب الأدبي للرواية. ومن أبرز القضايا- ولعلها القضية الوحيدة المهمة في الرواية – قضية المرجعية الدينية التقليدية أو المتوارثة واختفائها في القرون الأخيرة مما فتح المجال للتيارات المتطرفة للظهور والحلول محلها. في هذه الرواية لعبت عائلة العزام دور المرجعيات التقليدية التي تتوارث الشرعية من جيل لآخر، ويذكر الراوي هذه الشرعية لعائلة العزام في وصفه لجد عبد الكريم قائلا: “صور قديمة ذابت بعض تفاصيلها، يعتمر فيها مرتدياً عمامة الإفتاء التي لبسها وهو في الثامنة عشر من عمره، أصغر المفتين في السلطة العثمانية، ورثها عن أبيه الذي أخذها من أبيه.” (ص. 35)
لكن هذه السلسلة تنقطع في عهد عبد الكريم عزام “الذي أصر والده على إبقائه… لدى “الإخوة المسيحين” ولم ينقله إلى “دار التربية والتعليم الإسلامية” التي افتتحت خصيصا كي لا يضطر أولاد المسلمين إلى متابعة تحصيلهم في مدارس الإرساليات الأجنبية.” (ص. 39)
وعلى الرغم من أن الراوي لا يذكر سببا خلف عدم نقل عبد الله العزام ابنه لدار التربية والتعليم الإسلامية إلا أنه يشير وبكل أريحيه إلى أن اضطراب شخصية عبد الكريم متعلق بإصرار والده على إبقائه “لدى الإخوة المسيحين” في بداية الفقرة: “هكذا بدأ معه [عبدة الكريم] باكرا هذا الشعور بأن الدنيا هي حيث لا يكون، والدنيا لم تكن في مبنى المدرسة [الإخوة المسيحين] الذي أصر والده على إبقائه فيه.” (ص، 39 )
ويتواصل اضطراب عبد الكريم خلال أحداث القصة مروراً بزواجه الفاشل وسنواته المضطربة التي لا يشفيه منها سوى فاليريا الفتاة القادمة من بلغراد التي قابلها في فرنسا وشغفه حبها لدرجة الهوس: “فاليريا التي تأكد عبد الكريم إنه شفي بها. هجر بفضلها أطواره المضطربة لسنوات ونسي فجواته المعتمة، ثبت، عام فوق ماء الأيام، ينام جيدا. وجدت شقيقته وجهه “منيراً” في زيارتها لباريس.” (ص. 83 )
وفي حين أن غياب عبد الكريم في مأساته الشخصية واضطرابات الهوية التي يعانيها ولدت التيارات الجديدة المتطرفة والتي بدورها تملأ فراغ هذه المؤسسات وتنازعها فيه في حال وجدت بقاياه لا تزال قائمة كما كان الحال بالنسبة للشيخ عبد اللطيف كما ذكر الراوي: “بدأوا بمقاطعة خطبة هذا الشيخ وصاروا [أفراد جمعية “الهداية الإسلامية”] يعبرون أيام الجمعة إلى ضفة النهر الأخرى ليؤدوا الصلاة في جامع التوحيد في سوق الصاغة. حربهم عليه لم تكن سهلة، فالناس يحبونه، تسبقه دائماً ضحكته المجلجلة بعد نكتة مالحة يرويها، كثيرون ينحنون لتقبيل يده لكنه يسحبها ويربت بها الرؤوس والأكتاف… يقصده المحتاجون خدمة لأنهم يعرفونه صاحب حظوة عند النواب وأصحاب الشأن في المدينة، يدخل عليهم في أي وقت، لا يردون له طلباً، لا يطلب لنفسه شيئا. “ (ص. 109-110 )
وفي غياب عبد اللطيف إثر إصابته يشرع الراوي في ذكر تفاصيل حياة ياسين الشامي الذي قام باصطحاب ياسين لمركز “الهداية الإسلامية” وبفضله أنتمي أخيرا لتنظيم بلاد الرافدين. ياسين الذي دخل ظلماً للسجن الذي كان سبباً في انتمائه لهذه الجماعة. فالتشدد لا يلد إلا التشدد مهما كان انتماء كل منهما. أما بالنسبة لإسماعيل ابن انتصار وفي غياب دور الوالد ودور القدوة في المجتمع الذي كان يعيشه لم يقاوم ولم يكن يملك بديلاً عن كلام ياسين الشامي وكان كلامه بالنسبة إليه أقرب للصلاح والاستقامة من الحياة التي كان يعيشها متبعاً أهواءه ونزواته. فنجد أن والدته وحتى والده قد استحسنا التغير الملحوظ في حياته: “لم تقر انتصار بينها وبين نفسها بأن ابنها تغير حتى سمعتها من جارتها زوجة المشنوق. عقلان، قالت لها، ولا يمر بهم ردهة المدخل حتى إلا ويبادرهم بـ السلام عليكم، دون أن يرفع نظره نحو النساء. فرحت به انتصار عندما لاحظت أنه يحتفظ بالمصحف تحت مخدته، كما كبر قلبها به يوم رأته لأول مرة يخرج من جامع العطار وسط حشد الرجال عقب الصلاة، فصارت تتباطأ في مسيتها كي تطيل النظر إليه.” (ص. 71 )
تتسارع الأحداث بعدها بالنسبة لإسماعيل الذي سرعان ما وجد نفسه ضمن تنظيم بلاد الرافدين على وشك تفجير حافلة مليئة بالمدنيين فلا يمنعه من تفجيرها سوى طفل ذكره بأخيه المريض مما أحيا بداخله الجانب الإنساني لشخصيته، فعاد هارباً للبنان محتمياً بعبد الكريم الذي ساعده في الاختباء.
يختم جبور الرواية بتصويره ليوم جديد تعود فيه الأمور لنصابها إذ يفاجأ المشنوق بأن انتصار لم تكن ترتدي “ردائها الشرعي الذي ألبسها إياه إسماعيل، بل ارتدت سروالها الجينز الضيق الذي يعيد رسم قوامها.” (ص. 158) بل إنها أيضا ابتسمت في وجه المشنوق لأول مرة في تاريخ جيرتهما. وينهي جبور الرواية بهذا المشهد الذي يعود فيه عبد الكريم لمنزلته الاجتماعية فيساعد المحتاج والمسكين وتعود انتصار لحالها ولقناعاتها.
وبهذه النهاية الفريدة تنتهي رحلة القارئ في «حيّ الأمريكان» مخلفة ورائها العديد من التساؤلات حول العديد من القضايا التي يتمنى القارئ لو أن جبور قد تطرق إليها بعمق أكثر أو ذكر لنا تفاصيلها التاريخية والسياسية كحادثة وفاة الشيخ عماد وغيرها العديد من الأحداث. ويجدر الذكر هنا أن جبور قد أعطى قضية المرجعية الدينية حقها على الرغم من قصر صفحات الرواية وقد وفق في طرحه للقضية على عكس العديد من الكتاب الذين لم يفلحوا في طرح الموضوع بهذه الصورة المتوازنة وهذا يشير لإمكانيات جبور الأدبية القوية وإلى وعيه العميق بالقضية.
أعجبتني الرواية جدا وأنصح بقراءتها والاستمتاع بما تثيره من قضايا!
أحدث التعليقات