في بداية الأمر كنت مترددة في قراءة الرواية فعندما تتحدث الرواية عن بلد يسمى “بلدك” ومجتمع ربما تنتمي إليه يصبح الحذر واجباً ويتحول الأدب من لوحة جميلة أو بشعة معلقة في معرض ما إلى انعكاسك الشخصي وأصداء ذاتك.
بدأت بقراءة رواية «الطلياني» وأنا مدركة إمكانية احتمال أن أقوم برمي الرواية في سلة المهملات أو ربما ألقيها من النافذة ولحسن الحظ أنني بدأت قراءتها على متن الطائرة ولا نوافذ مفتوحة فيها، ثم إنني أحببتها منذ فصلها الثاني «شعاب الذكريات» عندما بدأ الكاتب في وصف تفاصيل الأسرة التونسية، ومنذ ذلك اليوم وأنا منتشيه بالرواية، فقد يحدث أحيانا أن ننتشي بالألم وهذا هو حالي مع «الطلياني» منتشية بجراحي وآلامي.
وبهذا الخصوص أذكر مقطعا لأحلام مستغانمي من روايتها «ذاكرة جسد» تقول فيه: “مدهش أن يصل الإنسان بفجائعه حد الرقص. إنه تميز في الخيبات والهزائم أيضا. فليست كل الهزائم في متناول الجميع. لا بد أن تكون لك أحلام فوق العادة، وأفراح وطموحات فوق العادة، لتصل بك عواطفك تلك إلى ضدها بهذه الطريقة.” (المستغانمي، 1993، ص. 390)
هل وصلت بي الخيبات والفجائع حد الرقص؟ لا أذكر ذلك، لكنني أذكر أنني انتشيت بالرواية ولا أزال منتشية. انتشيت بشفافيتها وصدقها على الرغم من أنها تعكس واقعا بشعاً، إلا أن الجميل في تلك البشاعة أن شكري مبخوت تحلى بالشجاعة الكافية لإيصال هذه البشاعة بكل جوانبها في عمل أدبي يأخذك لعالم الرواية وأجوائها.
تلك الأجواء التي قد عايشها شكري نفسه استناداً للتشابه بينه وبين بطل الرواية عبد الناصر أو “الطلياني” فلقد ولد الطلياني في سنة 1960 وشكري مبخوت من مواليد تونس سنة 1962. كما أنه حاصل على دكتوراه الدولة في الآداب من كلية الآداب بمنوبة وهو حالياً رئيس لجامعة منوبة الأمر الذي يجعله الأعلم بالعلاقات بين الأساتذة والطلبة التي أشار إليها أيضا في «الطلياني».
وبعيدا عن الطلياني، فإن شكري مبخوت عضو في العديد من هيئات التحرير منها مجلة “إيلا” التي يصدرها معهد الآداب العربية بتونس ومجلة رومانيا أرابيكا (Romano Arabica) التي يصدرها مركز الدراسات العربية التابع لجامعة بوخارست، رومانيا، ولديه العديد من الإصدارات في النقد الأدبي أيضاً.
حصلت رواية «الطلياني» على جائزة البوكر العربية سنة 2015، وهي روايته الأولى، وقد نشرتها دار التنوير في طبعتها الأولى سنة 2014 في بيروت والقاهرة وتونس. قسم شكري صفحات الرواية الـ342 إلى اثني عشر فصلاً وهي: «الزقاق الأخير» و «شعاب الذكريات» و «المنعرج» و «رواق الوجع والألم» و «منحدرات» و «طلاع الثنايا» و «مسالك موحشة» و «السكة المقفلة» «مفترق الطرق» و «الدروب الملتوية» و «المضيق» و «رأس الدرب».
تصف لنا الرواية قصة الرمق الأخير لآخر جيل عربي تصنعه الشعارات والانتماءات الحزبية سواء كانت يميناً أو يساراً. لقد توفي كل شيء وها نحن ذا نشهد مراسم الدفن في الفصل الأول للرواية، لم يكن “سي محمود” والد الطلياني هو الذي يدفن بل كانت مجموعة عظيمة من المصطلحات والشعارات السياسية هي التي تدفن بعدما رمى بها المواطن العادي في قعر القمامة.
وعلى الرغم من أن أحداث الرواية تدور في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات أي فترة سقوط الحكم البورقيبي (نسبة إلى الحبيب بورقيبة أول رئيس للجمهورية التونسية بعد الاستقلال) وانقلاب زين العابدين بن علي (الرئيس الثاني بعد بورقيبة إلى الثورة سنة 2011) إلا أنها اكتسبت معناها من خلال الأحداث الأخيرة في البلاد التي أنهت مراسم الدفن الأخيرة لما تبقى من شعارات وأكاذيب لم تدفن في بداية التسعينات.
تونس “الحداثة” و “الريادة” قد توفيت منذ التسعينات ولا نزال نسير في جنازتها ولسنا نعي ذلك، وتوفيت معها “المرأة التونسية” و “الحريات التونسية” وغيرها العديد من المصطلحات التي أطربتنا بها تونس 7 (نسبة للسابع من نوفمبر، يوم الانقلاب “المجيد”) على مدى الأربعة وعشرين سنة هي فترة حكم بن علي، لذا فقد وجدها العديد من المثقفين التونسيين رواية “مؤلمة” لأن مواجهة هذه الحقيقة مؤلمة بالتأكيد. مؤلم أن تعي فجأة أنك كـ”الزومبي” أو “الكسالي” جثة متحركة ميتة وحية في الآن ذاته.
وعلى الرغم من الصدى والإعجاب الذي نالته الرواية في تونس وجائزة البوكر التي تحصلت عليها إلا أن تعليقات القراء الغير تونسيين تثير الاهتمام وتفتح الباب للعديد من التساؤلات مثل بعض التعليقات التي قرأتها على موقع الجودريدز (Goodreads):
“إسقاطات فاشلة أعتقد أن المؤلف استهدف بها قراء أتوا من فضاء آخر.”
“بطل عربيد نسوانجي خمورجي وأعلمه مناضل وبيدافع عن حقوق الناس وبيطالب بالحرية والكرامة.. حلو كده؟”
“كانت تجربة احتاجت عقلا أكبر من عقلي لذا فلم أحبها جدا ولم أستفد منها كثيراً كذلك.”
وكأن لسان حال القرّاء يقول: إن ما يدور في المجتمع التونسي من أحداث اجتماعية وسياسية تنتمي لفضاء آخر يحتاج المرء لفهمه إلى عقل كبير كي يصدق وجود “بطل” عربيد ونسوانجي وخمورجي يدافع عن حقوق الناس ويطالب بالحرية. ولو أنني لم أقضِ السنة الماضية في تونس لكنت أنا صاحبة هذا التعليق، لكن شدة هول ما شاهدت عيناي وسمعت أذني يمنعني من الدهشة.
ومما سمعت أذني وشاهدت عيني إحدى حلقات برنامج «شاهد على العصر» لأحمد منصور استضاف فيها الهادي بكوش (رئيس وزراء تونس السابق وأحد الأطراف المساهمة في الانقلاب على بورقيبة) التي قد سجلت – طبعاً – بعد الثورة وتحديداً في سنة 2014 وجرى فيها الحوار التالي:
أحمد منصور: طب بورقيبة لم يكن يدرك أن يولي سلطة الأمن والداخلية إلى زير نساء [زين العابدين بن علي] كما يقال ورجل علاقاته متعددة يعني ده فيه خطورة على الدولة؟
الهادي البكوش: مع الأسف كثير من الناس في السلطة في العالم كله وهم كثير، ما كل أهل السياسة، لهم علاقات مع النساء قوية، وقد تكون العلاقات مفيدة لما تشوف الآن في فرنسا شيراك ولا موجود هذا في العالم السياسي.
“أحمد منصور: مفيدة في إيه؟ ( طبعاً وملامح الصدمة مرسومة على وجهه)
الهادي البكوش: ها؟
أحمد منصور: مفيدة في إيه؟ وأصلاً راجل عنده أسرار الدولة وبنام مع امرأة مش مرته وينام مع غيرها وغيرها وغيرها وغيرها هل يؤمَن هذا أن يكون معه أسرار دولة ومسؤولية دولة؟
الهادي البكوش: يمكن أن يخالط معها بدون أي يبث بأي سر أو يأخذ منها أسرار ممكن يأخذ منها.
أحمد منصور: قد يكون هذا في الغرب متاحاً ولكن..
الهادي البكوش: حتى في.. حتى عنا، معناها النساء يمكن أن تساعد الرجال للصعود في الحكم.” (البكوش، 2014)
لم يكن أحمد منصور وحده المصدوم من رد الهادي بكوش بل كنت معه مصدومة من هول ما سمعت. المشكلة لم تكن في علاقات بن علي المتعددة وفي كونه “زير نساء” بل كانت في تبرير الهادي بكوش لذلك وتحدثه عنه كأنه عادة معتادة فحتى عندما سأله أحمد منصور عن هذه العلاقات وكيف من الممكن أن تكون مفيدة، استغرب الهادي بكوش السؤال واستنكره.
وكما قال الشاعر سبط ابن التعاويذي: “إذا كان رب البيت بالدف مولعاً، فشيمة أهل البيت كلهم الرقص”، فما بالك إذا كان رب البيت بالنساء مولعاً، فكيف ستكون يا ترى حال أهل البيت كلهم؟ وهل يستغرب بعد هذا أن يكون “البطل” و “المنقذ” زير نساء؟
أعترف أنني لا أستغرب هذه التعليقات بل إنها شفت غليلي وذكرتني بذاتي القديمة التي كانت تعيش كل صيف في تونس وكأنها في “فضاء آخر” ليست مدركة هل ما تعيشه حقيقة أم ضرب من خيال. وبانت الحقيقة أخيراً بظهور رواية «الطلياني» واتضح أن هنالك كوكباً غريباً عجيباً اسمه تونس أضاع طريقه بين الشرق والغرب فأصبح مسخاً لا ينتمي لأي منهما فلا يساره يسار ولا يمينه يمين. لقد أنقذتني هذه الرواية من حافة الجنون، وبصورة غريبة أكدت لي أن ما أراه كان حقيقة ولم يكن خيالاً وأن المجتمع التونسي قد اصطدم بالحضيض وتجاوزه منذ بداية التسعينات.
صدمة القارئ الغير تونسي لم تكن أخلاقية فقط فتونس كانت رمزاً في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لـ”حقوق المرأة” و “التعليم” و”الليبرالية” و”الحداثة” وغيرها من الكذبات المنمقة التي يجيد حياكتها العديد من المثقفين والسياسيين التونسيين وغيرهم، كذبات كثيرة كشفتها رواية «الطلياني» التي عبرت بكل أريحية عن عصر سقوط الكلمات الكبيرة والمعاني الأكبر. حتى الأحزاب والاتجاهات السياسية كلها ملوثة وقذرة من الحزب الدستوري أو البورقيبي إلي اليسار واليمين على حد سواء.
أما بالنسبة لرسالة الرواية واضحة، يقولها بكل شفافية شكري مبخوت في برنامج كلام الناس الذي يعرض على قناة الحوار التونسي: “إن الرسالة والعبرة من الرواية هي أن اليسار قد اهتم بتحرير المجتمع ومواجهة ظلم الدولة والطغيان وتجاهل أمراً واحداً وهو تحرير الفرد نفسه، مشكلة عبد الناصر في تحرير الفرد قبل تحرير المجتمع.”
لذا نجد أن الرواية تبدأ بمشهد عبد الناصر أو الطلياني يتهجم على الشيخ علالة بينما لا يخبرنا الراوي عن السبب خلف هجوم الطلياني إلا في نهاية الرواية. وفي هذه الأثناء يمر البطل بصراعات كثيرة وحروب نفسية أكبر تنتهي بعقدته الشخصية التي كونتها حادثة تعدي الشيخ علالة لتفسر لنا سبب اضطراب الطلياني منذ البداية.
وتنتهي الرواية بنهاية صراع الطلياني الذي أكتشف أخيراً أن رحلته الحقيقية لم تكن لتحرير البروليتاريا أو غيرهم، وإنما هي محاولة لتحرير ذاته من عقدة أصابته في طفولته. عقدة حاول البطل أن يتحرر منها بمساعدة زينة كما ورد في حوار لهما:
زينة: وجعي في الجسد ولكن لا دواء له.. خرقت الصمت معك أنت.. أنت الوحيد الذي فتحت له أرشيف وجعي. لا شك أنك تحتقرني..
عبد الناصر: من أين تأتين بهذه الأوهام. لا احتقار ولا شفقة. أنا أحبك، والحب سخاء وعطاء.. علينا، أنت وأنا، أن نعيد كتابة تاريخ جسدينا.. سنكتبه معا بإرادتنا، بقوتنا الروحية.. أنت قوية يا زينة، صمدت وأرى الأفق واسعا ممتدا.. يدعونا ويغرينا..”
لكن وكما دارت أحداث الرواية، كانت زينة غارقة في أوجاعها الشخصية وعقدها الخاصة مما جعل كلام الطلياني مجرد أحلام أو أمنيات انتهت برحيلها مع رجل ستيني فرنسي. ربما في واقع مواز لا تنتهي الرواية كما قد انتهت، ويجد الطلياني في زينة حلاً لعقده وتجد فيه بلسماً لجراحها، لكن الواقع يبقى أقرب للرواية من أمنيات بطل من أبطالها. انتهت «الطلياني» بخيبته وخيبة القارئ على ما يبدوا ممن لم يعجبهم أسلوب الكاتب وبالتأكيد لم تعجبهم جرأته.
أما أنا فقد أعجبني أسلوب الرواية جداً وشعرت أنه نقل تفاصيل المجتمع التونسي بكل تناقضاته وازدواجيته وطبقيته بأفضل صورة ممكنة. هنالك بعض الوصف الجمالي أحياناً بما يتحمل الموقف لأن الرواية بصورة عامة لا تصف واقعاً جميلاً، ومن الوصف الجميل وصف الطلياني للاجنينة: “أتعرف رائحة السواك واللوبان العربي المر؟ أتعرف رائحة النعناع والزعتر والإكليل والخزامى والمردقوش؟ أتعرف رائحة الحناء والحرقوص؟ أتعرف رائحة الند حين تختلط برائحة الأترج؟ أتعرف رائحة القهوة التركية الممزوجة بقشرة البرتقال المجففة المرحية؟ أو رائحة احتراق قلوب الإجاص أو التفاح في الكانون؟ اجمع هذه الروائح كلها لو استطعت واخلطها خلطاً ورش بها اللاجنينة سأميزها في جسدها وأغراضها وملابسها ولحافها رائحة رائحة. كان جسمها مصفاة تستخلص من هذه الروائح روحها وتلقي الزائد الخانق منها. كل مرة تكون برائحة تغلب الروائح الأخرى.” (ص. 324 )
طوال الرواية كانت اللاجنينة هي الأنثى الأوحد التي ظل الطلياني يحلم بها حتى في عز لحظات انهياره، كانت الأنثى التي لا تموت ولست أعلم لماذا لم تُذكر في أي من المراجعات الأخرى، ربما حياء ًوربما إنكاراً لواقع المرأة التونسية التي يفترض أن تكون قائدة للنساء العربيات في الحداثة والعصرية بينما هي في حقيقة الأمر سجينة كما لم تكن من قبل، كما ذكر الراوي في وصف حديث دار بين نجلاء والطلياني: “وجدها الطلياني تبالغ حين قارنت نفسها بأمها التي اعتبرتها قد وجدت، مع نساء جيلها حريتها داخل القيود الاجتماعية رغم هيمنة الرجال الظاهرية. أما هي، وبنات جيلها، فضحية لمجتمع لا يرحم. يطلب منها أن تكون في الفضاء العام وفي الفضاء الخاص دون توزيع حقيقي جديد للأدوار. قالت: “لقد أعطانا بورقيبة قيداً جديداً ظنناه انعتاقا فتورطنا. لم يعد بإمكاننا أن نعود إلى الوراء. وإذا أردنا أن نتقدم تعذر علينا ذلك. أما البيت فسجن صغير وأما الشارع فسجن كبير. أحدهما يعمره سجان بليد لا تنتهي طلباته. طفل صغير دللته أمه ولم يستطع في الغالب الفطام منها، والآخر يعمره السفلة بتحرشهم بالنساء وعنف لغتهم الجنسية الناضحة كبتاً ونظراتهم التي تعري المرأة تعرية.” (ص. 190 )
وتتساقط النساء جميعا من قلب الطلياني، فحتى نجلاء التي أحيت فيه جانباً كان ينقصه مع زينة، “انتهى كل شيء بين عبد الناصر ونجلاء، وبدون ضجيج، لأنه أصبح يعافها ويشم في جسدها روائح عفنة لأصناف من الرجال الذين لا يطيقهم رغم لترات العطور التي تستحم بها” (ص. 295) وهكذا لا تبقى سوى للاجنينة التي يبقى يتغنى بها حتى في أصعب اللحظات.
رواية مثيرة للاهتمام فعلاً وتستحق القراءة لكل من هو مهتم بتاريخ تونس الحديث أو واقعها ولديه معرفة أولية بأحداث البلاد وما يدور خلف كواليس وما ينشر من مقالات وما يعرض من أفلام ومسلسلات.
المراجع:
- أحلام المستغانمي (1993) ذاكرة جسد، بيروت: دار الآداب للنشر والتوزيع
- الهادي البكوش (2014/08/10) “بورقيبة رقى بن علي فأطاح به (ج.11)”، قناة الجزيرة (برنامج شاهد على العصر)
أحدث التعليقات