الصفحة الرئيسية / مراجعات / خمسون حكمة حول العالم / الحكمة (12): «لا شيء» لجين تيلر
أقف اليوم في محطتي الثانية عشر: الدنمارك، وأتساءل: “كيف يُمكن للا شيء أن يثير في نفوسنا ما لا يحصى من المعاني؟”
سؤال أجابت عنه الروائية جين تيلر ببساطة فيلسوف في رواية «لا شيء» التي نشرتها مؤسسة ترجمان للترجمة والنشر في 2019 في الكويت، ونقلتها إلى العربية شهد المخلفي.
من منظور أغنس المُراهقة، تروي لنا جين تيلر قصة أنطون، المراهق الذي يعاني من أزمة وجودية اعتزل نتيجتها الدراسة والحياة، وسكن فوق شجرة خوخ يصرخ منها في زملاء صفه أن لا شيء له معنى، وأن كل شيء زائل لا محالة. مدفوعون بهرمونات المراهقة وآمال المُستقبل الواعدة، ترفض أغنس وأصدقاءها تصديق كلامه، وتأكيداً لمعنى الحياة، يقومون بجمع “كومة المعنى”.
انطلقت رحلة البحث عن المعنى في جمع الأشياء الصغيرة والتافهة كحذاء أغنس الذي قضت الصيف كله في محاولة إقناع أمها بشرائه لها. ولأن أغنس انزعجت من صديقتها جيردا التي اقترحت إضافة حذائها إلى كومة المعنى، طلبت منها شيئاً يفوقه أهمية واستغرقت ثلاثة أيام حتى وجدت هذا الشيء: حيوانها الأليف. وبهذه الكيفية أخذت الأمور تتفاقم حتى تضمّنت الكومة أشياء أخرى “غريبة ومخيفة، حيث [احتوت] على رأس كلب مقطوع، وتابوت طفل، … سبابة ممتلئة بالدم، وانتهاك قدسية المسيح، وعَلم الدنمارك، وأفعى بداخل برطمان، وسجادة صلاة، وزوج من العكازات، ودراجة نيون صفراء.” (ص. 103)
وصل خبر كومة المعنى إلى الصحافة المحلية والعالمية، وتنوعت ردود الفعل بين من رأوا أنهم مجرد مجموعة من الغوغائيين الذين يجب إدخالهم المدرسة الإصلاحية، أي أن أمرهم خارج عن السيطرة، ومن أرجعوا ما حدث إلى الفنَ والبحث عن المعنى (ص. 115). ونتيجة للاهتمام الذي أثارته كومة المعنى عرض عليهم متحف أمريكي شراءها.
غير أن كل هذا الاهتمام كان وقتياً وعرضياً. وفي هذا السياق تقول أغنس: “فقد وجدنا المعنى وكل شيء، عدة خبراء أعلنوا عن مدى عظمة كومة المعنى، فضلًا عن دفع متحف أمريكي لملايين الدولارات، وكانت النتيجة أن لم يعد أحد يرى ذلك مثيراً للاهتمام؛ فقد كنا في ذهول؛ إمّا لأن الكومة كانت المعنى بنفسها أو لا. وما دام الجميع اتفقوا على أنها كانت كذلك، فلن يذهب المعنىّ فكيف من الممكن أن يحدث العكس؟” (ص. 126) فيجيبها أنطون قائلاً: “المعنى يبقى معنى، فإن وجدتموه بالفعل فسيبقى معكم، والصحافة العالمية ستكون هنا حيث تحاول معرفة ما وُجد، ولكنها ليست هنا، لذلك مهما وجدتم فلن يكون ذا معنى؛ لأن المعنى لا وجود له!” (ص. 127)
اختلف الأصدقاء عن ماهية المعنى، وكيف يُمكن أن يكون بيعه للمتحف الأمريكي مُخالفاً لطبيعته، ومن كلمة لأخرى ونظراً للجرح الذي خلفته تضحياتهم في سبيل المعنى في كل فرد منهم، احتد النقاش بينهم، وبدأ التصارع الجسدي. في تلك اللحظة هرعت أغنس إلى أنطون الذي استجاب إلى ندائها، ورافقها إلى مكان الصراع.
واجههم أنطون مجددا بعبثية المعنى، وحقيقة أن الكومة لا يُمكن أن تُمثل المعنى في قوله: “إن كانت كومة القمامة هذه تعني شيئاً ما، فقد اختفى منذ أن بعتموه لأجل المعنى.” (ص. 142) وتابع حديثه مستفسراً عن المعنى الحقيقي للأشياء التي وضعوها في كومة المعنى إن كانت في نهاية المطاف قابلة للبيع. استفزهم كلامه فاندفعوا نحوه يضربونه حتى وقع كسيراً على الأرض بجوار كومة المعنى. وفي الليلة ذاتها احترق المكان، وتوفي أنطون شهيداً للمعنى!
طيلة الرواية كنتُ أؤيد رأي أنطون الذي لا يرى معنى ولا جدوى في أي شيء، وخاصة في كومة المعنى والتي تحتوي على أشياء مادية بحتة. فحتى سجادة الصلاة التي أتى بها صديقهم المسلم، لم تكن في واقعها إلا سجادة. ما أقصده هنا، هو أن الأمور التي تعنينا حقاً كبشر لا يُمكن وضعها في كومة. لحظات الحب الأولى. أول مرة نسمع فيها صوت طفلنا المُحبب. نظرات الحنان والحب من والدينا. حرص وخوف أحبائنا علينا. كلّها لحظات لا يُمكن أن توضع في كومة. لحظات لا يُمكن أن توصف بأنها “شيء”. ففي نهاية المطاف أنا أتفق مع أنطون أن لا شيء له معنى؛ لأن اللحظات أو الأمور ذات المعنى ليست مادية بطبيعة الحال.
غير أن الناشر لا يتفق معي في رؤيتي، فهو يرى – نقلاً عن غلاف الكتاب – أن أنطون “يعاني من الاكتئاب، لكنه يثير تساؤلات كبيرة حول الحياة.” وهذا يدفعني نحو استنتاجين اثنين لا ثالث لهما: إمّا 1) أن أكون أنا مصابة بالاكتئاب كأنطون، أو 2) أن أنطون غير مصاب بالاكتئاب.
أميل إلى الاستنتاج الثاني، على الرغم من وجود بعض الأدلة التي قد تصب في صالح الأول (أرجوكم لا تخبروا أحداً بذلك!). إن كل ما قاله أنطون سيكون مقبولاً لو كان صادراً عن شخص في الأربعين أو الخمسين من عمره، لذا فإن ما يمر به أنطون ما هو إلا نضج مبكر ووعي سابق لأوانه بما يُطلق عليه غالباً بـ“أزمة منتصف العمر”.
الحكمة من الكتاب:
إن الحكمة من الكتاب تتمثل في سؤال في غاية الأهمية، ألا وهو: كيف يستطيع الإنسان أن يعيش ويحلم بالمستقبل، وهو يدرك أن لا شيء ذا معنى، وأن ما يتقاتل عليه البشر (بما في ذلك الوطن والدين والشرف، وغيرها من الأمور التي احتوتها كومة المعنى)، لا معنى حقيقي له طالما يُمكن شراؤه بالمال أو المادة؟ وربّما يكون السؤال الأشمل هو: كيف نوصل للناشئة هذه المعاني؟ كيف نربيهم على ألا يتأثروا بأمور لا معنى لها؟ ويركزوا على المعنى، المعنى فقط؟
لا أملك إجابة مُثبتة على أي من الأسئلة السابقة، ولكن كل ما أستطيع قوله هو أن علينا أن نُعلمهم طرح الأسئلة. أن نعلمهم فن النقد والسؤال. حينها فقط سنربي جيلاً على قدر كافٍ من الوعي ومتمكن من إيجاد معناه في وسط الفوضى والعاصفة، وربّما كان هذا هو الأمر الوحيد الذي فلح فيه أنطون فعلاً؛ فبعد مرور ثمانية أعوام، تقول أغنس وهي تنظر إلى الرماد المتبقي من الحريق: “أحس بشيء غريب! حتى لو أنني لم أستطع وصفه، أعلم أنه ذو معنى، وأن ذلك المعنى ليس شيئاً يُمكنني تجاهله، فهل هو بيير أنطون فعلاً؟” (ص. 151) وبهذه اللافتة الذكية تًشير الكاتبة إلى أن المعنى الحقيقي الذي خلفه أنطون في نفوس أصدقائه وهو أهمية السؤال والبحث عن المعنى.
اقتباسات من الكتاب:
“لا شيء مهم، ولا شيء يستحق فعله، أدركت ذلك منذ وقتِ طويل.” (ص. 8)
“كل شيء بدأ لينتهي، فاللحظة التي تولد فيها ما هي إلا بداية للموت. هكذا هي الحياة!” (ص. 11)
“إن بقيتم أحياء إلى عمر الثمانين، فستكون ثلاثون سنة من أعماركم قد ذهبت في النوم، وتسعون سنة في الذهاب إلى المدرسة وحل الواجبات المدرسية، وأربعون سنة في العمل، إضافة إلى مضي ست سنوات في اللعب وأنتم أطفال، وبعدها ستُمضون اثنتي عشرة سنة في تنظيف المنزل والطبخ والاهتمام بأطفالكم، وهذا يعني أن لديكم تسعة سنوت للعيش… وتريدون أن تُمضوا تلك السنوات التسع في التظاهر بأنكم توصلتم إلى شيء ما في ظل هذه الحفلة التنكرية التي لا تعني شيئاً، بدلاً من أن تستمتعوا بهذه السنين.” (ص. 23)
“لا أرى أي فائدة وراء جمع معلومات من الآخرين، فهي كفيلة بما يكفي لأن تقتل من لم يكبر بعد واكتشف شيئاً لنفسه، ولكن كبار السن يحبون المعرفة، فالزيادة أفضل، ولا يهم أن تكون المعرفة من أناس، أو شيئاً تعلمته من القراءة.” (ص. 77)
“كل ما تفعله الروائح هو التحلل، ولكن عندما يبدأ شيء ما يتحلل، فهذا يعني أنه سيتحول إلى شيء جديد. والشيء الجديد تبدو رائحته جيدة، لذلك ليس هناك فرق سواء كانت الرائحة سيئة أم جيدة. فكل شيء عبارة عن جزء من دورة الحياة.” (ص. 96)
“اقشعر بدني حين أدركت كيف للشخص الواحد أن تتعدد فيه الشخصيات، القوي والضعيف، الشجاع والجبان، الشريف والدنيء.” (ص. 99)
الختام:
لكل من أخذته الحياة بعيداً عن جوهرها وجوهر ما يريده منها: عليك أن تقرأ هذه الرواية، فإن وجدت نفسك تقف في صف أغنس وأصدقائها، فعليك مراجعة حساباتك، فجميع الأشياء التي من حولنا لا معنى أو قيمة لها سوى القيمة التي نمنحها لها.
رواية عميقة جداً رغم بساطتها.
أحدث التعليقات