حمور زيادة، كاتب وصحافي سوداني إضافةً إلى نشاطه السياسي. كان رئيس القسم الثقافي في جريدة الأخبار السودانية، وله عدة مؤلفات منها مجموعة قصصية «سيرة أم دُرمانية» نشرتها له دار الأحمدي في سنة 2008 في القاهرة، ورواية «الكونج» التي نشرتها دار ميريت في سنة 2010 في القاهرة أيضاً. فازت روايته «شوق الدرويش» بجائزة نجيب محفوظ للرواية في دورة سنة 2014، ورشحت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر لسنة 2015. (الناغي، 2010)
رواية حمور زيادة «شوق الدرويش» التي نشرتها دار العين للنشر سنة 2014 في القاهرة هي محاولة فريدة من نوعها في كتابة الرواية التاريخية من منظور المستوى الاجتماعي الجزئي الذي يمثل الحياة اليومية لمجموعة من الشخصيات من مختلف الخلفيات العرقية، والتي عاشت في السودان في أواخر القرن التاسع عشر. كما تسعى الرواية إلى تفكيك الخطاب الاستشراقي الفوقي الذي اتصفت به فترة الاستعمار والخطاب الاستغرابي المعاكس له.
الشعب السوداني والجالية المسيحية الأرثودوكسية هما المجموعتان الرئيسيتان في الرواية، ويتطرق الكاتب لهاتين المجموعتين من خلال شخصيتي بخيت، العبد السوداني، وثيودورا، أو حواء كما يسميها بخيت، الفتاة اليونانية الأصل التي نشأت في مصر وأتت للسودان كجزء من بعثة أرثدوكسية. وبين الغوص في هاتين الشخصيتين، يعكس الكاتب تفاصيل حياة كل من هاتين المجموعتين، فمثلاً نجد أن بخيت تعرض للاغتصاب على يد سيده الأوربي وبثينة المصرية، وبذلك يعكس الكاتب من خلال شخصيته الاضطهاد الذي تعرض له السودانيون على يد كلٍ من الأوربيين والمصرين على حد سواء، فنجد أن إحدى شخصيات الرواية الفرعية، الشيخ إبراهيم ود الشّواك، يقول متحدثاً عن أم درمان: “المصريون لن يذهبوا. المهدية راحت. لديهم سلاح كثير. سلاح كثير جداً. والناس لا يحبونهم، لكنهم يكرهون الخليفة. إنها أيام النصارى. أقوياء ومتعلمون. أم درمان مدينة عجيبة. لكنها انتهت. أم درمان راحت. المصريون والنصارى نقلوا الناس إلى الخرطوم مرة أخرى. عمرّوا الحكمدارية القديمة ووضعوا قوانين لكل شيء. يجب أن نعتاد على ذلك.” (ص. 55) ومن كلمات هذه الشخصية يظهر المدى الذي تؤثر فيه كل من القوتين المصرية والأوروبية في حياة السودانيين وخاصة عبر “نقلهم” من مكان لآخر، فبخيت نفسه نقل من الجبال الغربية البعيدة إلى الخرطوم ليعرض للبيع في سوقها عندما كان صبياً مراهقاً (ص. 227، و 229).
أما بالنسبة لشخصية ثيودورا أو حواء، فهي تعكس الخطاب الاستشراقي الذي يسعى الكاتب إلى تفكيكه. يتميز هذا الخطاب بالنظرة الفوقية للشخص الأوربي والاعتماد على التعميمات في الإشارة إلى الشرق وكيفية التعامل معه. فمنذ التحاق ثيودورا بالبعثة الأرثدوكسية، والحوارات والملاحظات العنصرية تظهر بصورة أكبر في حديثها، فإذا بها تسأل الأب بولس باهتمام قائلة: “هل رائحة السود قبيحة كلون بشرتهم؟” فيجيب: “حام دعاه أبوه عبداً لإخوته، وأبناؤه عبيداً لأبنائهم. لكن نحن نحمل كلمة الرب لهم. فكلما أحببناهم أحبنا الرب.” أما زميلتها في البعثة، دورتا، فتقول: “رائحتهم قبيحة عطنة. رائحة ثقيلة كفاكهة عفنة. أما عرقهم فسام.” (ص. 132) أما بالنسبة للحادثة المتعلقة بأنجيلا، الخادمة السودانية لدى البعثة، والتي اتهمت بالسرقة بصورة شبه تلقائية وقرر الآباء مسؤولو البعثة جلدها في أكثر المشاهد إيلاماً في الرواية، فقد برروا ذلك بأنه “في نهاية الأمر ليس عقابـ[هم]. هذه قوانين الأتراك. ليس لـ[هم] دخل بها” وأن “هذا حكم هين. [فـ] المسلمون يقطعون الأيدي في شيء كهذا.” (ص. 185). وإذا بثيودورا تصلي من أجل خلاص “روح” أنجيلا، وتكتب في مذكراتها “الإنسان متوحش ناكر للجميل، كلما أجهد الراعي نفسه لهداية خراف الرب الضالة كلما اجتهدت في أذيته. سرقت اليوم خادمة سوداء صليبي الفضي.” (ص. 186) وتجدر الإشارة إلى أن الخادمة السودانية “السوداء” لم تثبت سرقتها، ولم تعترف أيضاً، بالرغم من العذاب الواقع عليها، وإنما وُجدت بعض الأدلة “الكافية” لاتهامها (وليس لإدانتها) بالسرقة. وبذا يلقي الكاتب “الضوء على التمثيل الخطابي للمستعمَر التابع (subaltern) الذي يعجز عن التعبير عن نفسه في الخطاب الاستعماري، فيقوم المستعمِر بتمثيله تمثيلاً لا يعبر عن رؤية التابع، وإنما عن منظور المستعمِر.” (ناصر، 2015) وحتى بعد أن قضت ثيودورا عشر سنوات في بلاد السودان، كانت لا تزال تملك منظوراً عنصرياً ومتعالياً، فترى في نفسها “رسوله الرب إلى بلاد الغنم”. لذا نجد أنها بدلاً من التجاوب عاطفياً مع بخيت المجنون في حبها، تعمل على تثقيفه وتعليمه وتحدثه “عن أمجاد جوردون في حرب القرم وفي الصين، وتعلمه اللغة الإنجليزية لكونها «لغة العالم المتمدن». ولا تلتفت إلى ما لديه هو ليعلمها إياه.” (ناصر، 2015)
كما يتطرق حمور لردة الفعل الناتجة عن هذا الخطاب الاستشراقي والمسماة بالخطاب الاستغرابي الذي يتميز بالنظرة الفوقية والسطحية تجاه الأوربي أو “الغربي” بالإضافة إلى الاعتماد على التعميمات في الإشارة إلى الغرب وكيفية التعامل معه. ويظهر ذلك في العديد من أجزاء الرواية التي يشير فيها إلى هذه الشخصية، أو تلك بصورة سلبية لصفة بيولوجية يتصف بها الأوربيون كبياض البشرة أو التأثر بالشمس. بالإضافة إلى التعميم المستمر حين الإشارة لأحد أبناء البعثة التبشيرية أو غيرهم من غير المسلمين، إذ نجد أن أغلب الأبطال يشيرون إليهم على أنهم “كفرة”، على الرغم من أنهم مسيحيون أرثوذكس. فعندما تصرخ ثيودورا قائلة: “يا يسوع” يصرخ الشيخ إبراهيم مهتاجاً: “كنت أعرف أنها كافرة. كنت أعرف ذلك.” (ص. 281) وحينما كانت ثيودورا تقرأ لبخيت إحدى رسائل المهدي الموجهة إلى غردون باشا والتي يدعوه فيها المهدي للإسلام، تقول ثيودورا “تخيل. يدعو غردون باشا للإسلام. غردون باشا الرجل الذي كان الرب في قلبه. لا يفارقه الإنجيل. ويعده أن يوليه. أليس هذا مضحكاً؟ فيقول في فتور: لماذا هو مضحك؟” [فتجيب:] ألا تعرف من هو غوردون باشا؟ [فيقول:] كافر قتله أنصار الله. تضحك. تقول له: كافر مثلي؟” (ص. 304-305) وهنا تقع إحدى المواجهات المثيرة للاهتمام بين المستشرق والمستغرب. إلا أن بخيت ينكر أن ثيودورا مسيحية الدين، فيقول: “أنت مسلمة يا حواء. دعي هذا المزاح، فهو مخيف” (ص. 305) وتعبير بخيت في حد ذاته يحمل العديد من المعاني، فهل من المخيف أن تكون حبيبته مسيحية؟ ولماذا؟ أليس مشروعاً للمسلم أن يتزوج المسيحية؟ أم أن المخيف فعلاً أن يرتبط “بالآخر” في عز اختلافه. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الترك تمت الإشارة إليهم أيضاً بأنهم “كفار” (ص. 310) وكأن هذه صفة يتصف بها كل من اختلف عن السودانيين في الدين أو التوجه السياسي.
استخدم حمور أسلوب السرد التناوبي لسرد أحداث الرواية، ويعرّف السرد التناوبي على أنه “عدد من القصص المتناوبة” إذ تبدأ قصة وتتلوها أخرى، ثم تعود القصة الأولى ثم الثانية، وهكذا. طبعاً يشترط في هذا النوع من السرد وجود عدد من القواسم المشتركة بين الشخصيات والأحداث. (حسان، 2016) إلا أن ما أضعف الرواية أو استخدام هذا الأسلوب بالذات هو تعدد الشخصيات، إذ يمر على القارئ أكثر من عشر شخصيات، ومع هذا العدد الكبير للشخصيات التي تلعب دوراً بصورة أو أخرى في التأثير على حبكة الرواية، يسهل تشتت القارئ وضياعه بين الأحداث.
بالإضافة إلى تشتيت انتباه القارئ، فإن رواية «شوق الدرويش» نجحت في تخييب توقعات القارئ ليكتشف في نهايتها أنها ليست رواية صوفية على غرار عنوانها والعبارات والحكم الصوفية التي تحتويها. لم تستجب الرواية لأفق توقعات القارئ، وهي “مجموعة التوقعات الأدبية والثقافية التي يتسلح بها القارئ (عن وعي أو غير وعي) في تناوله للنص وقراءته.” (ميجان، 285) عنوان الرواية يحمل من المعاني الصوفية ما يحمله، فكلمة الشوق لها العديد من المعاني الصوفية، أما بالنسبة لكلمة “الدرويش” فحدث ولا حرج عن ارتباطها في ذهن القارئ بالصوفية وطرقها المتعددة. كما استعان الكاتب أيضاً في الصفحات الأولى من الرواية بمقولة لابن العربي، أحد أبرز رموز التصوف، “كل شوقٍ يسكن باللقاء، لا يُعول عليه” وذكر في مقاطعها المختلفة العديد من العبر والحكم الصوفية من دون ارتباط وثيق لها بحبكة القصة، فعلى سبيل المثال يقوم بخيت محدثاً ثيودورا: “الحب هو كل ما نملك. من طلب الله وجده في الحب. من طلب السعادة وجدها في الحب. من طلب الثراء وجده في الحب.” (ص. 288-289) ومع كل هذه المعاني العظيمة، نجد أن الانتقام وجد طريقه لقلب بخيت وأعمى عينيه متجاهلاً أي حب حقيقي أو حب لله، ليفشل حمور وللأسف في الارتقاء لأفق التوقعات من رواية من المفترض أنّها تنتمي للأدب الصوفي.
بعيداً عن النظريات والتحليلات، لا أستطيع أن أنكر أنني استمتعت بالكتابة عن رواية «شوق الدرويش» لحمور زيادة، وذلك لتعدد المعاني ومجالات البحث التي تطرق إليها الكاتب، إلا أنني لم أستسغ قراءتها أبداً، وكانت في عدة أجزاء صعبة ومملة، وهذه ليست المرة الأولى التي أقرأ فيها عملاً مشابهاً، فأغلب الروايات العربية تكتب بغرض تحليلها واستجابتها للنظريات المختلفة بصورة يتغاضى فيها الكاتب عن المعنى الشاعري والأدبي للعمل الذي يمثل سر خلود العمل الأدبي، فالقضايا الاجتماعية والسياسية تتغير بتغير الزمان، إلا أن الشاعرية وكيفية تأثيرها على القارئ لا تختلف كثيراً من زمن لآخر فالمشاعر الإنسانية تبقى متشابهة على مر السنين.
المراجع:
سارة حسّان (20/03/2016) “ما هو السرد؟” موقع موضوع
عائشة خليل ناصر (03/10/2015) “قراءة في شوق الدرويش: رواية تنتمي لنموذج ما بعد الاستعمار،” موقع قنطرة
عمر الناغي، (08/11/2010) “صدور رواية “الكونج” عن دار ميريت للكاتب حمور زيادة،”، موقع الدستور الأصلي
ميجان الرويلي، وسعد البازعي (2007) دليل الناقد الأدبي، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي
أحدث التعليقات