شهلا العجيلي، دكتورة في الأدب العربي الحديث. عملت كمسؤولة إعلامية في الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر في فرعيهما في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويشمل عملها التطوعي على التطوع في العديد من مخيمات اللجوء الإنساني. لها العديد من المقالات النقدية والدراسات في مجال الأدب، ومن أبرز أعمالها الروائية: رواية “عين الهر” التي نشرتها سلسلة الآفاق العربية في القاهرة سنة 2009 ورواية «سماء قريبة من بيتنا» التي نشرتها منشورات ضفاف في بيروت سنة 2015، وهي إحدى روايات المرشحة للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لسنة 2016.
يقع بين صفحات رواية «سماء قريبة من بيتنا» الثلاثمائة وخمسة وأربعين عالم من الحكايات والقصص من مختلف بقاع الدنيا مما يعطي للرواية طابعاً أنثروبولوجياً يغوص في عمق القصص الاجتماعية لمختلف الشخصيات الفرعية التي تمر عليها الكاتبة، في حين أن الخط الرئيسي الذي يرسم أحداث الرواية ينتقل بكل خفة وسلاسة من منظور كبير واسع للأنا الجمعية والمتمثلة في حِمل القضية السورية إلى الأنا الفردية التي لا تُعنى إلا بذات الإنسان ومصالحه الشخصية والمتمثلة في منظور البطلة بعد أن أصابها السرطان.
استعارت الكاتبة لسان جمان أستاذة الأنثروبولوجيا السورية والمهتمة بالجغرافية البشرية لسرد أحداث الرواية، إذ تذكر بعد أحد لقاءاتها بصديقها وخليلها، ناصر، الدكتور الفلسطيني فتقول: “جاءني خاطر في تلك الجلسة أنه كان عليّ أن أدرس الجغرافيا، واكتشفت معه أنني أحبّها حقاً، وأنها ربما كانت شغفي المغيب الذي لم ينتبه أحد إليه، حتى أنا، وربما لهذا السبب تخصصت في مجال قريب من الجغرافيا البشرية تحديداً، وهو الأنثروبولوجيا الثقافية،” (ص.100) ولعل هذه الفقرة هي النقطة الأساسية التي تتفرع منها العديد من المقاطع والفقرات التي تتحدث بالتفصيل عن حياة الشخصيات الفرعية في الرواية من مختلف بقاع الأرض: من فلسطين وسورية والأردن وشرق آسيا وأروبا وأفريقيا وحتى الفيتنام وأمريكا الجنوبية.
في وسط هذا التنوع الثقافي والحضاري، نجد أن جمان تغرق في أحزانها الشخصية وتنتقل من المنظور العام، الذي تمثله الأنا الجمعية، للمنظور الخاص للأشياء وللأمور، الذي تمثله الأنا الفردية. فالأنا الجمعية تجسد “انتماء الأنا وإحساسها بالاندماج مع الجماعة”(المرهوبية، 2016) وتحملها لمسؤولية الجماعة وكأنها مسؤولية شخصية ستحاسب عليها، بل إنها لتحاسب عليها بالفعل، والأمثلة على منظور هذه الأنا الجمعية كثيرة في حياة العربي “الذي مازال يعيش في جغرافيا مضارب القبيلة يصاب بالارتباك والوحشة حينما تقذفه الظروف إلى الذهاب إلى صالة المطار والسفر المفاجئ. ولهذا تراه وحينما يواجه تلك البرودة المعمارية في التصميم القاسي لاتساع صالة المطار واختلاط اللهجات واللغات وإيقاع الأحذية على البلاط الرخامي لصالة المطار يشعر بالوحشة ويبحث أول ما يبحث عن صديق غير متوقع أو عن قريب ينقذه من هذه القطيعة الاجتماعية.” (قنديل، 2010)
حتى بالنسبة للأنا الجمعية فهنالك أنا جمعية أشد اتساعاً وشمولاً من أنا أخرى فرعية، “فأنا السورية” أوسع من “أنا الرقّية” إذ يبرز الفرق بين الأنا الجمعية الشاملة والأنا الجمعية في إحدى ملاحظات جمان الواردة في بداية الرواية عن السوريين فتستخدم صيغة المتكلم وتقول: “نحن السوريون لنا حكايتنا المختلفة معها [المطارات]، فبمجرد مرورنا من الكوة الاخيرة لأي موظف جوازات، نكون قد استلمنا صك ولادة جديدة، يعلن أننا لسنا مطلوبين لأي جهة أمنية وطنية أو دولية.” (ص. 15) في حين أن كلامها يختلف بعض الشيء عندما تزداد الأحداث توتراً في سوريا ويقترب خطر تنظيم داعش من الرقة فتعبر عن قلقها لناصر مما سيصيب أهلها من الضغوط والقيود التي يفرضها حضور التنظيم في المنطقة، فيرد عليها ناصر قائلاً: “نحن نعيش في علبة كبريت، متى اشتعل العود الأول، احترقت الأعواد كلها. لقد احترقت بغداد والقاهرة …، وقبلها القدس. الأيقونات كلها سقطت!” (ص. 95-96) فما كان منها إلا أن قاطعته بحدة قائلة: “لا يهمني. بيتي ليس في دمشق أو القدس.” (ص. 96) وهنا يبرز مدى غرق الإنسان في ذاته وأناه الفردية خاصة عندما تشتد الأزمات ويواجه الشخص الواقع المرير للحياة.
لكن ومع ذلك، تبقى “الأنا الرقّية” أكثر اتسعاُ من “أنا جمان” التي تعيش في الأردن وليست متضررة بصورة مباشرة مما يحدث في سوريا بقدر تأثرها بما يحدث في جسدها بعدما أصابه السرطان لتسقط منها الأنا الجمعية تماماً وما يترتب عليها واضعاً إياها في مواجهة مع نفسها وذاتها وأفكارها ومخاوفها بدون أي مركبات مجتمعية، وبهذا الشأن تقول معبرة عن علاقتها بناصر: “كيف يدخل رجل غريب حمّامي؟ وكيف أقف أمامه شبه عارية؟ ومن هو هذا الوحيد الذي رأي مني ما لم تره حتى أمي يوم ولادتي؟ رآني حليفة الرأس تماماً مثلما لم أتوقع أن أرى نفسي يوماً! لكن سرعان ما تلاشت تلك الفكرة مع غيرها من أفكار كثيرة كانت في الماضي القريب من قبيل المحظورات، إذ لم أعد أبالي بشيء. إن فكرة التحرر أجمل ما في المرض! التحرر من الأشياء كلها، ومن الناس كلهم، ومن الأعراف كلها، ومن الزمان والمكان، والخطأ والصواب، وحتى من الحنين.” (ص.190)
يزداد ضيق مجال الأنا أكثر من أي وقت مضى لتصل لمرحلة المنافسة والحسد كقولها: “أنا أحسد الجميع على صحتهم” (ص. 237) والغيرة الشديدة الغير مبررة والتي لا تتحدث عنها البطل الرئيسية، جمان، بصورة واضحة جلية للقارئ وإنما يمكن ملاحظتها من بين السطور في طريقة تأثرها وانجذابها لحبيب صديقتها هانية، الدكتور يعقوب. كانت جمان تعرف يعقوب منذ صغرها، إذ “اجتمعت به بشكل عابر في مراهقتهما المبكرة على ضفاف جزيرة بورتوفينو الإيطالية الساحرة.” (محمد، 2016) لكنها عندما تعرفت عليه في كبرها ومرضها كانت تربطه علاقة غرامية مع صديقتها التي تعرفت عليه “لما أصيبت بسرطان الغدد الليمفاويّة [و] أشرف … على علاجها، وبعدها صارت حبيبته” (ص. 201) إلا أن ذلك لم يمنعها من لقائه في حين غياب هانية في “التردرز” عندما جلست جمان بجوار يعقوب الذي “تناول منديلاً ورقياً، وكتب عليه شيئاً، وأرسله مع النادل إلى الدي جي.” وإذ بالأغنية إحدى أغاني داليدا التي تغنيها باللغة الإنجليزية والإيطالية والتي بعنوان “وجدت حبي في بورتوفينو” ثم “نظر في عينـ[يها] من تحت عدستيه المدورتين، وسألـ[ـها] بلهجة حيادية: هل تعرفين هذه الأغنية؟” وعلى الرغم من إنكارها لمعرفة الأغنية إلا أنها أنّبت نفسها على قدومها الذي كان فيه محاولة منها لاصطياد فرصة للقائه فتقول متسائلة: “ما الذي أتى بي إلى هنا أصلاً؟ ولقد ولدت مؤخراً، والمواليد الجدد شديدو الهشاشة، ويجب حمايتهم من عنف التقلبات!” (ص. 340) والتي تقصد بها هنا طبعاً التقلبات العاطفية.
تصل الغيرة موصلها بصورة يصعب تحليلها أو استيعابها في الفقرة الأخيرة للرواية عندما تقول جمان في مطلعها: “شيء ما في موت هانية حمل إليّ سكينة عميقة، شعرت بأنني تحررت من سطوتها، وارتحت إلى أنّها ماتت بحادث مفجع لا بالسرطان!” (ص. 342) وكأنها بعبارتها هذه تفسر إحدى الأسئلة التي طرحتها في وسط الرواية عن “الذي سيخسره الناس لو بقيت سورية بلا حرب!” وهو أن الإنسان في بعض الأحيان يحتاج إلى الحروب والمجازر حتى يضمن بقائه من ناحية وجودية بحتة كما كان حالها أو من ناحية مادية بسبب محدودية الموارد الطبيعية على سطح هذا الكوكب الذي يتشاركه ما يقارب من 4.3 مليار شخص وفقا لما نشره موقع الـworldometers.
الرواية غنية بالأحداث والقصص الإنسانية التي تجعلها تنتمي للروايات الأنثروبولوجية التي تغوص في عمق مختلف الثقافات والحضارات، بالإضافة للرسالة العميقة التي تعكسها شخصية جمان المضطربة والتي تمثل إلى حد ما شخصية البشر الذين يتكلمون بصيفة الأنا الجمعية إذا ما كانوا يعيشون في ترف مادي وصحي فإذا ما انقلبت حالتهم ورخاؤهم أصبحوا يتحدثوا بصيغة الأنا المفردة الأنانية.
المراجع:
إيمان محمد (2016) ” «سماء قريبة من بيتنا».. رواية مكشوفة!” جريدة الاتحاد
خليل قنديل (2010) “ضريبة الأنا الجمعية،” جريدة الدستور
سالمة المرهوبية (2016) “الأنا والآخر في مذكرات أميرة عربية”، جريدة الوطن
أحدث التعليقات