رواية «عطارد» لمحمد ربيع

في السابع والعشرين من أبريل سنة 2016، قابلتُ محمد ربيع لأول مرة وهو يتحدث عن روايته المرشحة للبوكر، «عطارد»، وبشك وجودي وتردد شبابي أجاب على ملاحظات القرّاء المصدومين بسوداوية الرواية وأحداثها، وأبرز ما أذكره من ردوده وإجاباته أن أحداث الرواية كلها استندت على وقائع نقلتها الجرائد المصرية ولم تكن من بنات إبداعه.

لم يكن لقائي الأول به مشجعاً لقراءة روايته «عطارد»  وخاصة أن الواقع بات سوداوياً بما فيه الكفاية دون تدخل أي كتّاب أو روائيين، لكنني عندما قابلته للمرة الثانية من خلال سطور روايته وكلماته أدركت أنني كنت مخطئة وأنه لا يجدر بنا أبداً أن نحكم على الكتاب من عنوانه دون التعمق في محتواه ومعناه وخاصة عندما يكون الكاتب روائياً متمرساً ومتقناً لفن الرواية كمحمد ربيع، فلولا تمرسه لما أتقن إيصال السوداوية الأدبية بهذه الصورة المؤثرة والمستفزة.

الكاتب محمد ربيع، هو روائي مصري وخريج كلية الهندسة سنة 2002. نشرت دار كتب خان روايته الأولى «كوكب عنبر» سنة 2010 في القاهرة، التي تحصلت على جائزة ساويرس الثقافية عن أفضل رواية للشباب سنة 2011، ونشرت له أيضاً رواية «عام التنين» في سنة 2012.

استخدم محمد في روايته «عطارد»  – التي نشرتها في طبعتها الثالثة دار التنوير للطباعة والنشر سنة 2016 في القاهرة وتم ترشيحها للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية سنة 2016- صيغة القبح التي تمثل الـ”صيغة [الـ]مناسبة للتعبير عن إشكالية الوجود وطبيعته،” (الرويلي والبازغي، 2007، ص. 202) وقد استخدم هذه الصيغة للتعبير عن ميل الإنسان للقتل، الذي يمثل إحدى الغرائز البشرية، وميله للعنف إذا ما سمحت له الظروف بذلك؛ في هذا الشأن يقول الكاتب الأمريكي مارك توين في كتابه «في أثر خط الاستواء» الذي نشرته له صن تايمز ميديا جروب في سنة 1987 “إذا ما اجتمعت الرغبة في القتل وفرصة القيام به، فمن سينجو من المشانق!” مستفهماً عن إمكانية هروب البشر جميعاً من مصير الموت إذا ما سنحت الظروف لكل من يرغب في القتل في ممارسته متى ما أراد دون رادع أو قانون.

يرِد في الرواية الكثير من الوصف العنيف المستفز والمقزز الذي يعكس صياغة القبح في أوج زينتها وهي تهدف “إلى تشويش القيم الفنية و[تشييع] عدم الالتزام بقوانين الطبيعة وأعراف المجتمع، مما يثير ردة فعل حانقة غاضبة لدى المتلقي التقليدي عموماً وأتباع الأعراف الكلاسيكية على وجه الخصوص،” (الرويلي والبازغي، 2007، ص. 203) أما بالنسبة للهدف من استخدام هذا الأسلوب فلقد “رأى الكثيرون في فن القبح أسلوباً ذا وظيفة تصحيحية، إذ قد يجعلنا نرى العالم الحقيقي من منظور جديد يتصف، على ما فيه من غرابة وتشويه مزعج، بالواقعية والموثوقية…فالقبح لعبة مع العبث من حيث أن الفنان يلعب “هزالاً ومذعوراً مع سخافات الوجود الأساسية”.” (الرويلي والبازغي، 2007، ص. 203-204)

إن ميل البشر للقتل والاستمتاع به أحد أبرز سخافات الوجود الأساسية التي يتطرق لها الكاتب “هزلاً ومذعوراً” حتى يكشف الستار عن جانب بشري لا يتطرق له المثقفون العرب كثيراً، فحتى عند البحث عن عبارة “آلة للقتل” في محرك البحث جوجل نجد أن أغلب المقالات والتحليلات العربية المتعلقة بهذا المصطلح مرتبطة وبصورة تلقائية بالمجموعات الدينية المتطرفة وما تمارسه من غسيل أفكار للمنتمين إليها أو المنتمين المحتملين لتحولهم لآلة قتل؛ وكأن المنتمين لهذه المجموعات لا حول لهم ولا قوة وتم تسييرهم غصباً عنهم لكي يصبحوا “آلات للقتل”. إن تاريخ البشرية، ومهما اختلفت الأقلام التي تكتبه، يتحدث عن العنف الذي مارسه البشر ضد بعضهم البعض منذ الأزل، إذ “يجتهد الجميع في القتل الذي يمثل أعلى طموح العرق البشري وأول حدث في تاريخه،” (اقتباس من رواية «الغريب الغامض» لمارك توين) ووفقاً لإدراك الكاتب لهذه الحقيقة وتخصيصه للرواية كاملة للخوض فيها، نجد أنه يستهل روايته بعرض هذا الجانب المظلم للطبيعة البشرية.

غالباً ما يستعير الكتّاب اقتباسات شعرية ملهمة أو أقوال لأحد الشخصيات البارزة في مقدمات رواياتهم، على عكس مؤلف «عطارد» الذي يقدم للقارئ مدخلاً من نوع آخر يصف فيه بصورة صادمة ومفجعة أحداثاً قضية دموية سوداء يحقق فيها النقيب أحمد عطارد، وكأنه بهذا المدخل يشير بصريح العبارة إلى السبب الأساسي الذي حول النقيب إلى الحال التي وصل إليها في نهاية الرواية، فمن نقيب شرطة لا يتحمل رؤية المنظر المفجع لمنزل قاتلٍ قتل جميع أفراد عائلته وطبخ لحمهم وأكله، إلى العقيد الذي يكتب تقريره الخاص عن انتحار زملائه، ويرجع الانتحار إلى ضغوط العمل، “وإلى النجاح الباهر في قنص الأهداف، وإلى انعدام التربية النفسية للضّباط، وإلى الوحدة والعزلة، وإلى أشياء أخرى كثيرة” (ص. 18) ولا يرى غرابة وتطرف التزامه الشخصي بتأدية هذه المهمة دون أن يرف له رمش إذ استسلم القناص أحمد لغريزة القتل دون أن يقف ضميره أو عقله في وجهها، فلم يعد القتل مجرد وظيفة يقوم بها أو حتى واجباً وطنياً، بل تحول لشغف ومتعة عبر عنها بقوله: “كنت أعتبر اصطياد الغزلان إهانة لمن اصطاد بشراً من قبل.” (ص. 38)

أما بالنسبة للحدث الرئيسي الذي يتخلل هذه السيرة الذاتية، فهو الفترة التي احتل فيها جيشا فرسان مالطا الرابع والخامس جمهورية مصر في سنة 2023- إذ يستعير الكاتب بعضاً من ملامح رواية الخيال العلمي. خلال فترة الاحتلال ينضم القناص أحمد للمعارضة التي توظف مهارته في التصويب وقتل البشر لتقوية شوكتها ضد المستعمر أو بالمختصر لـ”أسباب وطنية”.

تكمن براعة الكاتب في توظيفه لخياله الواسع لإيصال عدة رسائل مهمة خلال الرواية منها أن بإمكان الوطنية أن تخلو من الإنسانية، وهذا بالضبط ما حدث. عندما لم تنجح المقاومة المصرية “الوطنية” في طرد المحتل المالطي من خلال قتل أفراد الجيش المالطي وغيرهم من المصريين الموالين للجيش المحتل، قامت المقاومة بابتكار فكرة جديدة تتمثل في استخدام القناصة أمثال أحمد عطارد في قتل الشعب المصري الأعزل حتى يثور وينتفض على الاحتلال المالطي ويكسر شوكته. خلال هذه المرحلة من القتل المحلل، أشبع أحمد غريزة القتل لديه لدرجة أن الدرون – المستخدم في التواصل بين أفراد المقاومة وله خصائص الحيوان/الحشرة الآلية – تفاجأ من وتيرة القتل الشديدة وفزع منها.

انتهى الاحتلال وعادت الإطارات المصرية للحكم، إلا أن أحمد عطارد لم يتمكن من العودة لطبيعته القديمة قبل الاحتلال بعدما تمكنت منه الرغبة في القتل العشوائي ليتحول لآلة قتل لا ترحم بل ترى في القتل الذي تقترفه رحمة بضحاياها كما يقول مخاطباً نائب وزير الداخلية: “أنا …وباقي الزملاء في الداخلية كلنا رحمة لمن يعذبون هنا [في هذه الحياة].” (ص. 279) إلا أن نائب وزير الداخلية أجابه موبخاً انسياقه لهذه الرغبة: “الاحتلال انتهى، وأنت تقتل أشخاصاً دون أي هدف، أصبحت تقتل الناس عشوائياً دون نظام… هل أفقدتك شهوة القتل عقلك؟” (ص.279) ولهذه العبارة الكثير من المعاني، إذ تعكس تبرير النائب للقتل العشوائي وقت الاحتلال ورفضه له بعد الاستقلال وهو الأمر الذي صعب على القناص الذي تعود القتل كما صعب على غيره ممن تعلم كيف يبرر استخدام العنف في بداية الأمر لأهداف سامية سرعان ما تتحول لرغبة شخصية بحتة وهنا يخطر السؤال الفلسفي الأبرز “هل من الممكن أن تبرر الغاية الوسيلة؟”

استناداً لرأي الكاتب ولصفحات الرواية الثلاثمائة وأربعة، لا يمكن للغاية أن تبرر الوسيلة، لأن الشخص إذا ما تجاوز حدود الأخلاق والإنسانية مرة لسبب ما مهما كانت أهميته، فمن المؤكد أنه سيجد سبباً آخر ليبرر نفس التجاوز مرة أخرى.

أعجبتني الرواية على الرغم من سوداويتها وتأثيرها المباشر على مخيلتي وأعصابي، فهي تتطرق لموضوع خطير وذي أهمية كبيرة.

المراجع:

ميجان الرويلي، وسعد البازعي (2007) دليل الناقد الأدبي، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي

أحدث التعليقات