رواية «مصائر: كونشيرتو الهولوكوست والنكبة» لربعي المدهون

ربعي المدهون، روائي وصحفي فلسطيني خريج الجامعة الإسكندرية إذ تحصل منها على ليسانس آداب في قسم التاريخ سنة 1970. عمل ربعي في الصحافة وحدها ولم يزاول مهنة غيرها. نشرت له العديد من المجلات والصحف العربية إنتاجه من القصص والمقالات السياسة.

رواية «مصائر: كونشيرتو الهولوكوست والنكبة» الفائزة بجائزة البوكر العربي لسنة 2016 هي الحلقة الثانية في ثلاثية ربعي التي استهلها بروايته «السيدة من تل أبيب» الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت سنة 2011 و”التي قدمت مشهداً بانورامياً لقطاع غزة في مرحلة زمنية محددة” وقد تم ترشيحها للقائمة القصيرة لجائزة البوكر في سنة 2010. تقدم رواية  «مصائر: كونشيرتو الهولوكوست والنكبة» “بانوراما لوضع فلسطيني آخر” (ص.7) يعكس أوضاع الـ 1.4 مليون فلسطيني الذين يعيشون في المناطق الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي ويمثلون 12% من مجموع تعداد السكان الفلسطينيين في مختلف بقاع المعمورة والذي يبلغ عددهم 11.6 مليون فلسطيني وفقاً لإحصائيات سنة 2012. أولئك هم “الباقين هناك” كمحمود دهمان بطل رواية “الفلسطيني التيس” لشخصية جنين، والتي بدورها تلعب أحد أدوار البطولة في رواية المدهون.

قام ربعي “بتوليف النص في قالب الكونشرتو الموسيقي المكون من أربع حركات، تشغل كل منها حكاية تنهض على بطلين اثنين، يتحركان في فضائهما الخاص، قبل أن يتحولا إلى شخصيتين ثانويتين في الحركة التالية، حين يظهر بطلان رئيسيان آخران لحكاية أخرى” كما هو الحال في الحركة الثالثة، أما في “الحركة الرابعة والأخيرة،” تبدأ الحكايات الأربعة في التكامل وتتوالف شخصياتها وأحداثها ومكوناتها الأخرى وتكون ثيمات العمل التي حكمت كل واحدة من الحكايات، قد التقت حول أسئلة الرواية حول النكبة، والهولوكوست، والعودة.” (ص.7)

ويعكس هذا التقسيم الخلاق أسلوب ربعي الإبداعي الذي يميزه عن غيره من الكتّاب وخاصة في أجزاءٍ مختلفة من الرواية التي يسمح لشخصيته الحقيقة كمؤلف للرواية والمتحكم بأمرها في الظهور والتفاعل مع الشخصيات الخيالية الأخرى، كلقائه بوليد، أحد شخصيات الرواية. ويعبر وليد عن هذا اللقاء العجيب بقوله: “ترددت مسبقاً فقد يعمد الرجل، إذا ثبت أنه المدهون فعلاً، إلى تغيير مسار رحلتي هذه كلها فهو المؤلف وخالق شخصيتي في روايته السابقة “السيدة من تل أبيب” وخالق شخصيتي التي أظهر بها الآن. لا أريد أن أتورط معه، أو أورط زوجتي جولي.” (ص.166) هذا الإحساس بالوعي الذي منحه الكاتب لشخصية وليد يعكس منهجية ما وراء القص.

يعود مصطلح ما وراء القص لوجود تخيل داخل الإطار التخيلي الأساسي، إذ يقوم النص ذاته بالتعليق على نفسه وكأن النص قد اكتسب وعياً ذاتياً يتجاوز الحاجز بين الوعي والخيال، ولعل السبب الذي دفع ربعياً لاستخدام منهجية ما وراء القص، هو تطرقه “لمعنى أكثر تطرفاً يقول بأن التاريخ أو الحقيقة هما افتراضيان: لم يعد هناك عالم من الحقائق الخارجية بل سلسلة من التراكيب، وفنون الخداع، والهياكل غير الدائمة.” (مجموعة مؤلفين، 2010) ويصب هذا المعنى في جوهر القضية التي يسعى ربعي لعرضها للقارئ ألا وهي تعدد وجهات النظر للحقيقة الواحدة كما هو الحال بالنسبة للـ12% من الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة .

إذن، ما معنى أن تكون فلسطينياً وصاحب جواز سفر إسرائيلي؟

إن السؤال السابق هو أحد الأسئلة التي يحاول الكاتب أن يجيب عليها من خلال رواية <مصائر” فنجد أن الوضع الذي يعايشه أبطال قصته الأربعة: جنان وباسم ووليد وجولي يعرضهم لهذا السؤال بصورة أو بأخرى. إن هذه الفئة من الفلسطينيين الذين “بقوا هناك” ولم يرحلوا تحيط بهم العديد من التحديات ووجهات النظر السلبية في بعض الأحيان، فقد قبلوا بوجود سلطة المحتل إذ حصلوا على جواز سفر إسرائيلي، ويحكم حياتهم اليومية القوانين الإسرائيلية. يطرح ربعي هذا الجزء من التحدي من خلال إحدى الشخصيات الرئيسية، وهي شخصية باسم زوج جنين الفلسطيني الأصل والأمريكي الجواز. لم يتمكن باسم من العمل أو التمتع بأبسط الحقوق عندما كان يعيش في يافا مع زوجته التي كانت تقضي الكثير من وقتها في مكاتب السلطات الإسرائيلية من أجل الحصول على أوراق إقامته “إذ تكررت زيارة جنين لمكتب أيالا (الموظفة الإسرائيلية).” (ص.97)

إن قبول هذه الفئة من الفلسطينيين بسلطة المحتل يراها غيرهم من الفلسطينيين أو العرب بصورة عامة كنوع من التطبيع أو مقايضة للهوية الفلسطينية، فتقول أحد الشخصيات الفرعية عن محمود دهمان “خلص يا بنت عم.. محمود صار إسرائيلي.” (ص.115) إلا أن الشخصية المقابلة ترد على قولها بعد أخذ ورد بالعبارة: “فيش فلسطيني في الدنيا يقبل على حاله يصير إسرائيلي يا بنت عم، ون صار، ما بيكون بإيده ولا بكيفه ولا يخاطره. محمود صار إسرائيلي غصبن عنه يا حاجة. غصبن عنه صار. وبصراحة بقول لك اياها ع روس الاشهاد، منيح اللي محمود بقي هناك. امنيح اللي ما هاجر زينا واتبهدل البهدلة والشرشحة في المخيمات.” (ص.117)

وبأسلوب شيق وقصص عديدة ومختلفة، يأخذ ربعي القارئ في رحلة في مغامرات الفلسطيني الذي لا يراقب القضية عن بعد، وإنما يحاول أن يعود لأرضه مهما كلفه الأمر متجاهلاً البروتوكولات المتمثلة في جواز السفر الذي لا يمثل في نهاية المطاف سوى مجرد ورقة اكتسبت أهميتها من القيمة التي يعطيها لها البشر في تعاملاتهم مع بعضهم البعض. الرواية أكثر من رائعة وتستحق القراءة من أجل الاطلاع على حال أقلية فلسطينية بقيت مغيبة عن الساحة الإعلامية والثقافية.

المراجع:

مجموعة مؤلفين (2010) دراسات في رواية ما بعد الحداثة (ترجمة، أماني أبو رحمة) دمشق: دار نينوى للنشر

 

 

أحدث التعليقات