الصفحة الرئيسية / مراجعات / مُختارات / رواية «الحالة الحرجة للمدعو “ك.”» لعزيز محمد
برائحة العجز وطعم السخرية المرير، يُقدم الكاتب والروائي السعودي عزيز محمد هذه الرواية والتي نشرتها ببيروت دار تنوير للطباعة والنشر في عام 2017 ووصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لعام 2018. وهي الرواية الأولى للكاتب، الذي نظم الشعر وكتب القصة القصيرة، وله مجموعة من المقالات عن السينما التي نُشرت في عدة مجلات ثقافية ومواقع إلكترونية. (عزيز محمد)
وُلد الراوي/البطل في عائلة متوسطة الدخل تقطن شمال المملكة العربية سعودية. كان طفلاً حيياً حساساً ومتفوقاً، لكن أمر والده بأن “لا يبالغ” كان بمثابة الكف الأول الذي لطم وجهه وجعل منه شاباً عاجزاً وساخراً.
لم يكن والده الوحيد الذي جعل منه شاباً بروح شائب، وإنما هي صدمات وكفوف كثيرة جعلت منه شخصاً غير قانع بأن يمارس أي تغيير مؤثر في ما حوله، بل صار مجهوده يقتصر على أن ينزوي لداخله، على الرغم من أنه مذ وعيه لذاته كان يراوده ذاك الشعور بأنه سابق لسنه وحائز من النضج ما انشغل عنه أقرانه، وكان يشعر بأنه يملك الإرادة لأن يصير شيئاً عظيماً، وأن يغير العالم. (ص. 55)
دراسته ووظيفته كانتا صدمتان غير بسيطتين فرضهما عليه المجتمع والظروف، فها هو يقول: “وجدت نفسي في معترك الدراسة الجامعية، في طريق لا يشبه فكرتي عن نفسي، ظللت في داخلي أحيي ذلك الصوت الذي يقول إني لم أخلق لهذا، وأن ثمة في الأمام انعطافة ما ستعيدني إلى حيث يليق بي أن أسير. كنت متأكداً من تحقق تلك الفكرة إلى حد أني لم أتعامل بجدية مع أي عائق يضلني عن طريقي. وحتى حين اضطررت لأن أشعل هذه الوظيفة، بكل ما فيها من إشارات السقوط، فقد ظللت أعامل هذا بصفته شراً لا بد منه، مجرد خطوة تمهيدية ضرورية نحو مصيري المنتظر… لقد أدركت متأخراً أني من بين أقراني كنت ضمن الأشد تخلفاً وأقل نضجاً، وأني تركت الحياة تمضي فيما كنت منشغلاً بعدم الانخداع بمظاهرها، بل والانتقاص من متطلباتها العملية ومسؤولياتها.” (ص. 55-56)
وبين واقع لا يستصيغه ونفس يستصغرها يقوده العجز إلى التلذذ بالمرض، فها هو يهرب لخيالاته التي يتصور فيها أن مصيبة شنيعة تحل به وتحرمه من “كل أمل في الحياة السعيدة. تكون هذه الفكرة عادة مصحوبة بقدر من المازوشية، إذ [يـ]جد نفسـ[ـه] متلذذاً بكيفية تأقلمـ[هـ] مع تلك المصيبة، وكيف ستثمر لاحقاً في حياتـ[ـه].” (ص. 59) وإذ بخيالاته تتحقق ليكتشف أنه مصاب بالسرطان. وبالفعل سرعان ما أصبح يتلذذ به.
بعد اكتشافه لمرضه، وعندما كان عائداً من العاصمة إلى مدينته بإحدى الرحلات الجوية الداخلية، لم يتمكن من دخول حمام الدرجة السياحية نظراً لامتلائه الدائم. وبعد عدة محاولات منه للتسابق لدخوله، والتي باءت جميعاً بالفشل، وجد نفسه لا شعورياً يستخدم السرطان كحجة تمنحه حق استعمال حمام الدرجة الأولى. إلا أن الأمر لم يتوقف على ذلك، بل منحه هذا المرض القوة، إذ يقول: “لقد شعرت بأني صلب حقاً، بإمكاني أن أوجه الناس جميعاً، بإمكان أي أحد أن يبارزني في محاورة وكنت لأخرسه، بإمكان أي مسألة أن تعترضني وسأكون على أهبة الاستعداد. كُنت عازماً على أن أهزم شيئاً، ولم يكن ذلك الشيء هو المرض. بإمكان المرض أن ينال مني، وسأكون سعيداً بهذا، طالما ظلّ يمنحني المكنة على أن أنال من أي شيء آخر.” (ص. 113)
ووسط دوامة العجز التي يغرق فيها المدعو “ك.”، يشير إلى سبب وقوعه في هذا العجز ، ألا وهو الصراع بين رغبته في الانتماء إلى من حوله فها هو يقول: “لطالما كنت بتهذيبي المفرط وتبعيتي أميل لأن أكون موضع قبول لدى الآخرين.” وبين رغبته في التمتع باستقلاليته وفردانيته على الرغم من أنه قد “صور لـ[ـه] دائماً أن التمرد والتخلي والاستقلال الذي [يـ]ـمارسه الآن ينتمي إلى عالم بعيد من عالمنا نحن، بعيد إلى حد لا يمكن أن تحقق لـ[ـه] من خلاله أي سعادة.” (ص. 243)
لم يمنح الكاتب أي اسم لبطل الرواية، واكتفى بالإشارة إلى قصة ألفها الراوي تُشبه إلى حد ما قصته وسمى بطلها بالموظف “ك.”، ولعل عدم تسمية الراوي تمنح عمقاً إضافياً للرواية، وكأن لسان حاله يقول أنها قد تكون عن أي واحد منكم، فالصراع لا يتفرد به البطل، وإنما هو صراع جيل بأكمله يحاول أن يعيش مستقلاً في مجتمع لا يعترف بالخصوصية والفردية.
رواية سوداوية ساخرة، إلا أنها دسمة بالأفكار والمعاني العميقة التي تدفع القارئ للتوقف عندها والتمتع بعمقها، منها:
- “أمي تقول إنه علي الإقلاع عن الكتب والسجائر، كما لو كانا الشيء نفسه…وسراً أعجب بحذاقتها البسيطة، فالأدب والسجائر هما حقاً الشيء نفسه.” (ص. 25)
- “لطالما شعرت بأن الناس هذه الأيام يعيشون كما لو كانوا موظفين لدى الله، لا عباداً له. كما لو كان في إمكانهم أن يسيئوا له خلف ظهره ثم يواصلوا التظاهر بالعمل.” (ص. 178)
- “لم أكن أفهم ما يعني هذا: الموت بشرف؛ من أجل ماذا؟ كنت أفضّل الموت بارتياح.” (ص. 240)
- “يا للتفاهة التي يتبدل بها شعور الإنسان. كيف للمرء أن يثق بعزيمته، أو حتى هزيمته، حين يدرك أن النفس التي يحملها جُبلت من هذه الهشاشة؟” (ص. 251)
أسلوب منمق ومعانٍ كبيرة ولغة بليغة أثبت الكاتب من خلالها قدرته على إدهاش القارئ وإمتاعه على الرغم من سوداوية موضوعها. كل كلمة وكل فاصلة في هذه الرواية وضعت بحكمة وإتقان مما يجعلها من الأدب الرفيع. رواية تستحق أن تقرأ.
أحدث التعليقات