الصفحة الرئيسية / مراجعات / خمسون حكمة حول العالم / الحكمة (16): «كافكا على الشاطئ» لهاروكي موراكامي
أقف اليوم في محطتي السادسة عشر: اليابان، بلاد العجائب والغرائب؛ فرواية هاروكي موراكامي «كافكا على الشاطئ» التي نشر طبعتها الثالثة المركز الثقافي العربي سنة 2013 في الدار البيضاء، ونقلتها إلى العربية إيمان رزق الله تجسد العجائب والغرائب؛ وهو أمرٌ ليس مستبعداً طالما العنوان ذاته يحمل اسم “كافكا” كاتب المُستغرب والعجيب. دفعتني رواية هاروكي موراكامي إلى مواجهة المُسلّمات الأخلاقية والدينية التي أحملها مراراً وتكراراً، وهو بصراحة أمرٌ ليس مُريحاً بالنسبة لي كقارئة، بل إن هناك أجزاء تحملتها على مضض كقارئة؛ لأن القراءة تتطلب مستوى عالياً من الوعي والانسجام مع النص وهو ما لم أتمكن من تحقيقه مع العديد من الأفكار والثيمات التي يحملها الكتاب. تتضمن رواية «كافكا على الشاطئ» مجموعة متنوعة من الثيمات والمواضيع بين الواقعي والمُتخيل واللا معقول وغير المقبول. تتألف الرواية من 49 فصلاً، وتدور الأحداث بين شخصيتين: كافكا تامورا وناكاتا. الأول مراهق في الخامسة عشرة من عمره هارب من منزله ومن نبوءة والده بأنه سيقتله ويعاشر أمه وأخته، والثاني عجوز يعيش في عالم عجيب يحادث فيه القطط، وتُمطر السماء فيه سمكاً. وبين الغريب والمُستغرب، لا تلتقي الشخصيتان، وإنما تؤثر أفعال كل منهما على حياة الآخر.
تتشابك وتتفرع أحداث الرواية ومُجرياتها، ويطرح موراكامي أسئلة كثيرة وألغازاً أكثر دون أن يجيب عن أيّ منها، وهو أمر مُرهق ومُخيب للآمال وخاصةً بعدما استمرّيت في أن أمني نفسي طيلة صفحات الرواية الـ 621 بأنني سأجد في النهاية جواباً وحلاً لكل الألغاز والأسئلة التي سبق وأثارها الكتاب.
غير أن الثيمة الوحيدة التي أعتقد أن موراكامي أتقن بناءها هي ثيمة الغرائبية الجنسية؛ وهو ما يفسر احتواء الرواية على شخصيات ذات ميول غريبة عن بقية المُجتمع أو هكذا بدت لي نظراً لبعدي عن القيم والمُسلمّات في المجتمع الياباني.
أكثر الشخصيات غرابة في نظري هي شخصية البطل كافكا تامورا، فعلى الرغم من هروبه من نبوءة والده بأنه سيقتله ويضاجع أمه وأخته، يقع كافكا في نهاية المطاف في هذه المُحرّمات. وجدت هذه النبوءة في قمة الغرابة، ولم أجد أي مبرر يفسر لي السبب الذي قد يدفع والد كافكا إلى تخيل نبوءة كهذه، وإن فعل وراودته غصباً عن نفسه، فلماذا يقولها لابنه؟ وهو أمرُ استغربه صديقه أوشيما الذي قال متفاجئاً: (ولماذا بحق الله يخبرك أبوك بشيء رهيب كهذا؟) فيجيبه كافكا: (ربما رغبة منه في الانتقام من زوجته وابنته اللتين هجرتاه. ربما أراد أن يعاقبهما. بواسطتي.) (ص. 268) أمّا بالنسبة لشخصية أوشيما، فقد تكون أكثر تعقيداً. فهي فتاة ولدت أنثى، لكنها لوطية ولم تأتها العادة الشهرية أبداً وتشعر أنها ذكر. ولا أنسى ذِكر طبع شخصية ناكاتا العجوز اللا جنسي أو الذي لا يملك أي انجذاب جنسي للآخرين.
لكن وعلى الرغم من أن هذه الشخصيات وميولهم الجنسية لم تُسهل رحلة القراءة، وجدت في الرواية بعض الأجزاء الممتعة والفنية والتي أثارت في نفسي شعوراً غرائبياً وممتعاً على حد سواء، ولعل من أبرز هذه الأجزاء أغنية (كافكا على الشاطئ) :
“تجلس على حافة العالم
وأنا في بحيرة بركانية مبددة
كلمات بلا حروف
تقف في ظلال الباب.
نور القمر يشع على سحلية نائمة
والسماء تمطر سمكا صغيراً
وخارج النافذة جنود
يسرقون أنفسهم لكي يموتوا.
كافكا جالس على كرسي على الشاطئ
يفكر في البندول الذى يحرك العالم
يبدو أنه
عندما ينغلق قلبك،
يصبح ظل طائر الفينيق الجامد
سكينا يقطع أحلامك
أصابع البنت الغارقة
تبحث عن حجر المدخل، والمزيد
ترفع طرف ثوبها اللا زوردي
عيناها تحدقان
في كافكا على الشاطئ.” ( ص. 301-302)
انتهت الرواية مُخلفةً وراءها أحاسيس متضاربة ومتناقضة من الاستمتاع والاستغراب والتساؤل عن هذا البلد العظيم وهذه الثقافة العجيبة: ثقافة اليابان. أعلم أن رواية واحدة قد لا تلخص واقع دولة كبيرة وعريقة كاليابان لكنها وبلا شك تفتح الطريق أمامي نحو قراءات أخرى من هذا البلد شريطة أن تكون على الأقل لكاتب آخر.
الحكمة من الكتاب:
دفعني كتاب «كافكا على الشاطئ» لهاروكي موراكامي إلى التفكير في حكمة مهمة تتلخص في كوننا لا نقرأ الروايات عبر قراءة الحروف والعبارات التي يخطّها الكاتب أو المُترجم، وإنّما عبر التجارب والمعاني والقيم التي نحملها ونؤمن بها، لذا وعندما كنتُ أقرأ هذه الرواية لم أتمكن من التجاوب مع كافة أجزائها فبعض الأجزاء المتعلقة بزنا المحارم واللوطية منعتني من التجاوب معها، بينما لم أستطع استيعاب أجزاء أخرى تتحدث عن حجر المدخل (يبدو أن له وظيفة نقل الأرواح أو شيء من هذا القبيل)، وعن إمكانية أن يحمل الجسد الواحد أكثر من روح. لذا فنحن لا نقرأ الكتب باللغة التي كُتبت أو ترجمت إليها، وإنّما باللغة التي تكتبنا.
اقتباسات من الكتاب:
“القدر، أحياناً، كعاصفة رملية صغيرة لا تنفك تغير اتجاهاتها” (ص. 7)
“عليك أن تنجو وسط تلك العاصفة الباطشة الميتافيزيقية الرمزية، بغض النظر عن مدى ميتافيزيقيتها أو رمزيتها. الخطأ ممنوع: ستقطع العاصفة اللحم كآلاف الأنصال. وسينزف الناس هناك، وستنزف أنت أيضاً، ستنزفون جميعاً دماً أحمر حاراً. وستتلقف أنت هذا الدم بيديك، دمك، ودم الآخرين. ولحظة انتهاء العاصفة، لن تتذكر كيف نجوت منها، لن تتذكر كيف تدبرت أمرك لتنجو، ولن تدرك هل انتهت العاصفة أم لا. ستكون متيقناً من أمر واحد فقط: حين تخرج من العاصفة، لن تعود الشخص نفسه الذي دخلها، ولهذا السبب وحده، كانت العاصفة.” (ص. 9)
“قلبك نهر واسع بعد وابل من المطر. تفيض المياه على ضفتيه. تحتفي علامات الطريق، بطمسها أو يجرفها السيل الجارف. ويستمر المطر بالهطول على النهر. في كل مرة ترى فيها فيضاناً كهذا في نشرة الأخبار تقول لنفسك: ها هو ذا. إنه قلبي.” (ص. 15)
“دائماً ما يُحمّل الآباء الأطفال الأذكياء أعباء لا قِبَل لهم بها، فقط لأنهم قادرون على التعامل معها. ويستغرق الأطفال أنفسهم في المهام التي يتحملونها، فتراهم يفقدون الإحساس الطبيعي بالانفتاح والإنجاز شيئاً فشيئاً. وعندما يعامل الأطفال على هذا النحو، يميلون إلى الانسحاب إلى قوقعة داخلية يكتمون مشاعرهم فيها. ويستغرق الأمر مجهوداً كبيراً ووقتاً أطول لحملهم على الخروج من تلك القوقعة. إذ إن قلوب الصغار تتشكل بسهولة، ولكن ما إن تتشكل، حتى يصير شبه مستحيل تغييرها.” (ص. 135)
“المسألة كلها مسألة خيال. مسؤوليتنا تبدأ بالقدرة على التخيل… الأحلام تبدأ المسؤولية، اعكس هذه الفكرة… بوسعك القول إنه لا يمكن أن تنشأ مسؤولية بلا قدرة على التخيل.” (ص. 175)
“ما الحياة إلا وداع طويل.” (ص. 194)
“في حياة كل شخص نقطة لا عودة، وفي حالات نادرة توجد نقطة يمكنه التقدم منها، وحين نصل لتلك النقطة، كل ما علينا فعله أن نتقبل الحقيقة بهدوء، وهكذا نظل أحياء.” (ص. 214)
“أما الأشخاص العاديون الذين يعيشون بطريقة عادية فهم الذين يجب أن تحترس منهم.” (ص. 250)
“إذا كنت تستخدم دماغك في التفكير، فلن يرغب الناس بالتواصل معك.” (ص. 252)
“المرء لا يختار قدره. إنما القدر يختار المرء. هذه هي رؤية الدراما الإغريقية للعالم. وفلسفة المأساة – حسب أرسطو – لا تأتي، للسخرية، من نقاط الضعف في شخصية البطل وإنما من حسناته… لا يتورط الناس في المأساة بسبب عيوبهم وإنما بسبب فضائلهم.” (ص. 264)
“قد يحدث أن يستطيع الحب إعادة بناء العالم، كما يقولون، كل شيء ممكن من أجل الحب وبه.” (ص. 301)
“منذ الأزل والشعر والرمزية لا ينفصلان.” (ص. 324)
“كان جدي يقول دوماً إن سؤال [استفسار] الناس يحرج المرء للحظة لكن عدم السؤال يحرجه مدى الحياة.” (ص. 339)
“كل شيء يتغير، الأرض والزمن والمفاهيم والحب والحياة والإيمان والعدل والشر – كلها مفاهيم سائلة متغيرة. لا تبقى على شكل واحد أو في مكان واحد. العالم كله أشبه بطرد فيد إكس كبير.” (ص. 382)
“هكذا الحب يا كافكا. أنت الذي بداخلك هذه الأحاسيس الرائعة، وعليك أن تعيشها وحدك فيما تهيم في الظلام. على ذهنك وجسدك أن يتحملاها كلها. كلها وأنت وحدك.” (ص. 467)
“الأشياء خارجك ليست سوى انعكاس ظاهري لما بداخلك، وما في داخلك انعكاس لما هو خارجك. ولهذا فحين تدخل متاهة الخارج، تكون في الوقت نفسه قد دخلت متاهة الداخل. وهو، بالتأكيد، أمر ينطوي على خطر.” (ص 469)
الختام:
أعتقد أن لهذا الكتاب فئة مُحددة من القراء والمُعجبين لأنه لن يُعجب الجميع؛ لكن ومع ذلك لم تكن تجربة قراءته سيئة، وإنما تخللتها العديد من الوقفات والاقتباسات المُمتعة كالتي أوردتها أعلاه.
تأتي هذه الرواية ضمن سلسلة ثلاثية من عالم كافكا، وهي أولاً رواية «المُحاكمة» لفارنتس كافكا. ثانياً هذه الرواية، وثالثاً رواية «كافكا الخاطب الأبدي» لجاكلين راؤول-دوفال.
أحدث التعليقات